(إلى عثمان تزغارت)
في فيلمها الثاني «وهلأ لوين؟» الذي انطلق بنجاح على الشاشات اللبنانيّة، تعاود نادين لبكي بإتقان أكبر ما بدأته مع باكورتها الروائيّة «سكّر بنات» (٢٠٠٧). تسلّط نظرتها الطوباويّة ـــ البراغماتيّة من وجهة نظر تسويقيّة ـــ على المجتمع اللبناني وصراعاته. تفعل ذلك بمهارة سينمائيّة (تصوير: كريستوف أوفنشتاين، مونتاج: فيرونيك لانج)، وبنفَس انتقادي تارة، وفولكلوري طوراً.

بأسلوب هو مزيج من الشاعريّة والسذاجة والإسراف الجمالي، بين الكوميديا والتراجيديا، بين الواقعيّة الجديدة والسينما الاستعراضيّة. يستحوذ الفيلم على اهتمام المشاهد الذي يتماهى مع الأحداث. يتطهّر من أوجاعه أو خوفه أو إحساسه بالذنب، ثم يخرج لاستئناف حياته.
ثكالى متّشحات بالسواد، حاملات صور موتاهنّ الذين حصدتهم حروب بعيدة، يتقدّمن في السهل الأجرد على وقع كوريغرافيا جنائزيّة، فيما صوت الراوية يطلق الحدّوتة. بهذا المشهد المؤسلب يبدأ الفيلم، عند مدافن الضيعة الموزّعة بين مسلمين ومسيحيين. الفيلم من بطولة تلك الضيعة المجازيّة، المختلطة دينيّاً، بمختارها (خليل بو خليل) وكاهنها (سمير عوّاد) وشيخها (زياد أبو عبسي) ومهبولها (منذر بعلبكي). قرية «رحبانيّة» مقطوعة عن العالم منذ الحرب السابقة. الجسر الذي يصلها بالخارج لم يُعَد بناؤه، والألغام تزنّرها من كل صوب، والبثّ التلفزيوني لا يمكن التقاطه إلا بأعجوبة، ليأتي حاملاً مخاطر الإباحيّة والتفرقة الأهليّة. وحدهما المراهقان روكز ونسيم، يغامران بالخروج عند الفجر على درّاجة ناريّة، يحملان منتج الضيعة، ويعودان بالحاجيات الأساسيّة.
وسط هذا الديكور الريفي، تبني نادين لبكي فيلمها تبعاً لإيقاع مشوّق (السيناريو كتبته بالاشتراك مع جهاد حجيلي ورودني الحدّاد). حركات الكاميرا وأحجام الكادرات والإضاءة وزوايا التصوير، وموسيقى خالد مزنّر، وكلمات الأغنيات ذات النفَس البريختي، بتوقيع تانيا صالح. إيقاع اللقطات والمشاهد التي تتكامل وتتحاور لتخلق سياقاً ديناميّاً، يغذيه الحوار المشغول بعناية. اللحظات الطريفة أو الجارحة التي يقوم عليها الفيلم، وأداء الممثلين الذين أدارتهم بمهارة، في خلطة موفّقة بين محترفين وهواة. نادين هي في الفيلم أمال المسيحيّة، صاحبة المقهى الذي تنعقد فيه الأحداث وصولاً إلى الذروة، حين يجتمع أهل القرية في حفلة مصالحة قسريّة، قوامها الحشيش والمسكّنات والأوكرانيّات. ربيع (جوليان فرح) معلّم البناء الذي يرمّم مقهى أمال، مسلم طبعاً، ما يغني السيناريو بقصّة حبّ مستحيلة، برسم الأغنيات والأحلام. في المقهى، ستنفجر نادين لبكي في مونولوغها المركزي، منتهرةً الشبان المهتاجين الذين تسلّلت إليهم سموم الفتنة. وهنا ستلتقي نساء القرية، روح الفيلم ودينامو الحبكة، للالتفاف على جنون الرجال «الحربجيّة». تبرع المخرجة في رسم الشخصيات النسائية: إيفون (إيفون معلوف) زوجة المختار، وعفاف (ليلى حكيم) الخفيفة الظل، وفاطمة (أنجو ريحان) بحجابها القاتم، وتقلا (كلود باز مصوبع)... تتجلّى الأخيرة في مشهد المواجهة مع تمثال السيّدة العذراء، بعد مقتل ابنها نسيم خارج القرية، ثم حين تطلق النار على قدم ابنها الآخر (ساسين كوزلي) لمنعه من حمل السلاح ثأراً.
«كحلون» نادين لبكي معرّضة لرياح الحرب الأهليّة التي «تأتي من الخارج» طبعاً، على طريقة «الغريب» في المسرح الرحباني. لذلك ستبدو أسباب الخلاف، والأحداث التي تستدرج الأهالي إلى الاقتتال، أشبه بظواهر غيبيّة ليس لها تفسير: كسر الصليب، تدنيس الجامع، كسر تمثال العذراء انتقاماً، الدم في جرن المياه المصلاة، إلخ. يلعب الفيلم على هذه المشاهد الخطيرة بشيء من الخفّة، «يستغلّها» لاكتساب قوّته التأثيريّة. نادين تكاد تبتزّنا وتلعب على مشاعرنا، تسرف في الغواية والكوميديا، وتبالغ في توظيف القسوة، لا لتحرّضنا وتدفعنا إلى الوعي (وإلا لعمّقت الطرح)، بل لبناء عمل سينمائي ناجح يحقق الإجماع. ترينا ما نحبّ رؤيته، تختبئ وراء الكليشهات والتعميمات لتتفادى الغوص في الجرح، وقول الأشياء الموجعة. إنّها جماليّة الغواية التي تأخذ هنا كل معناها...
لحماية القرية من جنون الرجال، تلجأ النسوة إلى الجنس (الأوكراني) وإلى المخدرات. تستيقظ القرية ذات صباح، وقد انقلب مسيحيّوها مسلمين ومسلموها مسيحيّين. الآن صار ممكناً دفن نسيم بسلام. لكن، هل تكفي الحلول السحريّة لتجاوز البنى القديمة؟ فيلم «وهلأ لوين؟» نفسه يشكّ في ذلك.

«وهلأ لوين؟»: في صالات «أمبير» (1269) و«بلانيت» (01/292192)



والآن إلى الأوسكار؟

بعد نجاح «سكّر بنات» مع آن دومينيك توسان، كان من السهل على نادين لبكي إنجاز مشروعها الثاني، بدعم من المنتجة الفرنسيّة المذكورة. السينمائيّة الشابة هي في كل مكان هذه الأيّام؛ في إعلان عن ماركة مستحضرات تجميل، في ندوة شاركت فيها في باريس يوم ١٢ أيلول (سبتمبر)، وبُثّت على النت، إلى جانب فرانسوا هولاند أحد مرشّحي الحزب الاشتراكي للرئاسة الفرنسية ٢٠١٢ وميشيل بيكولي وبيار لوسكور عن «أهميّة الثقافة كوسيلة انفتاح»، على الشاشة الصغيرة وعلى جدران المدن اللبنانيّة، في مناسبة انطلاق فيلمها الروائي الثاني «وهلأ لوين؟» (والآن إلى أين؟) على الشاشات اللبنانيّة. بعد مشاركته الربيع الماضي في «كان»، وفوزه أخيراً بـ«جائزة الجمهور» في «تورنتو»، رشّح لبنان الفيلم لجوائز الأوسكار الأميركيّة (أفضل فيلم أجنبي).