أسبوع حافل ينتظر عشّاق الفن السابع في لبنان، وبداية قوية لـ«متروبوليس» التي اختارت بدء أول برامجها الاستعادية لهذا الموسم مع المعلّم الإسباني لويس بونويل (1900 ــــ 1983). تحت عنوان «أحلام ووقائع: استعادة لأعمال لويس بونويل»، ينطلق الليلة البرنامج التكريمي الذي نظّمته الجمعيّة اللبنانية، بالتعاون مع السفارتين الإسبانية والمكسيكية، ومعهد «ثرفانتس»، والمركز الثقافي الفرنسي في لبنان، احتفاء بالسينمائي الشهير المثير للجدل، وأحد سحرة الفن السابع.
11 فيلماً من أهم ما أنجزه السريالي المشاكس، ستعرضها صالة «متروبوليس أمبير صوفيل»، ما يمثّل فرصة ثمينة لجمهور الفن السابع في لبنان، لاكتشاف تلك الأعمال الكلاسيكيّة، أو اعادة اكتشافها في نسخ ٣٥ ملم مرمّمة. والانطلاقة بحد ذاتها تحمل الليلة بصمات لبنانيّة خاصة، مع الـ Ciné-concert الذي يتلقّف فيلمه «كلب أندلسي» بمرافقة عزف حيّ. كما نشير إلى محاضرة مهمّة يلقيها خافيير إيسبادا (29/9 ــــ س: 7:00)، المخرج الذي اشتغل على العديد من الأعمال التي تناولت بونويل.
بونويل الذي ولد في إسبانيا من أمّ كاثوليكية وأب ليبرالي، سار في درب الإلحاد بعد قراءته داروين. تابع دراساته الجامعية في مدريد، وتنقّل سينمائياً بين مدن عدة. محطته الأولى كانت مدريد بطبيعة الحال، حيث تعرّف إلى لوركا وسلفادور دالي. صداقته بالفنان السريالي شكّلت منعطفاً مهمّاً في حياته، رغم عدم استمرارها طويلاً.
انتقاله إلى باريس عام 1925 غيّر حياته. في عاصمة الأنوار خلال العشرينيات، ارتاد حلقات المثقفين والمفكّرين والمنظّرين، وخصوصاً السرياليين، وعمل مساعد مخرج في أفلام عدة، وكتب وأخرج مع سلفادور دالي الشريط الصامت «كلب أندلسي» (1929ــــ 17 د) الذي سيعرض في افتتاح التظاهرة اليوم مع مرافقة موسيقية حيّة لشريف صحناوي (غيتار) وستيفان ريفز (سوبرانو ساكسوفون). من هنا، انطلقت مسيرته السينمائية الحافلة التي وُصِفت بالـ«المخرّبة» للقيم والنظم السائدة. قرر دالي وبونويل صناعة الفيلم، بعدما أفصح كل منهما للآخر عن حلمه. دالي حلم بيده ملأى بالنمل، وبونويل حلم بشفرة تقطع عيناً. وفقاً لبونويل، كانت القاعدة أن يتكوّن الفيلم من صور لا يمكن تفسيرها بطريقة منطقية، أو أن تكون من الذاكرة أو ذات علاقة بثقافة ما. هكذا أخرج أحد أكثر الأفلام إثارة للجدل في تاريخ السينما، هو القائل: «بدلاً من تفسير الصور، حريّ بنا قبولها كما هي».
في فرنسا أيضاً، قدم بونويل شريطه الثاني «العصر الذهبي» (1930 ــــ 60 د ـــــ الليلة). الفيلم المقتبس جزئياً من رواية الماركيز دو ساد «120 يوماً في سادوم»، كان من المفترض أن يكون تعاوناً ثانياً مع دالي. كُتب الشريط بصيغة مشتركة قبل أن يختلف الاثنان، لشيوعية بونويل وإلحاده وفق ما جاء في مذكرات دالي. عَرض الفيلم السريالي لاحقته الفوضى، بل إنّ بونويل وضع حجارة في جيبه ليدافع عن نفسه من ردة فعل الجمهور. وقبل أن يمنع الفيلم من قبل محافظ باريس، هاجمت جماعة فاشية صالة العرض والجمهور.
هذه الفوضى والجدل لم يمنعا بونويل من الاستمرار. غادر باريس وعاد مرة أخرى إلى إسبانيا، وهناك أخرج شريطه شبه الوثائقي Las Hurdes (١٩٣٣ــــــ ٢٧ د ــــ ٢٧/٩). الفيلم الذي لم يسلم بدوره من المنع بداعي «تحقير وتشويه إسبانيا»، يتناول الفقر في إحدى البلدات الإسبانية الفقيرة بصورة سريالية. وقد اتخذه مؤرخو السينما أحد الأمثلة المبكرة على الفيلم الوثائقي الساخر mockumentary. بعد ذلك، عاد بونويل إلى فرنسا هرباً من فاشية فرانكو. ثم انتقل إلى الولايات المتحدة، وتنقّل بين هوليوود ونيويورك، قبل أن يتوجّه إلى المكسيك عام 1946، حيث حصل على جنسيتها متخلياً عن جنسيته الإسبانية. هناك أخرج إحدى روائعه Los Olvidados (١٩٥٠ـــ ٨٨ د ــــ ٢٧/٩). الشريط الذي أطلق اسم بونويل عالمياً، يتناول الفقر من خلال سرد واقعي اجتماعي وسريالي لقصة مجموعة من الأطفال الفقراء في مكسيكو سيتي. بعد الحفاوة النقدية التي لقيها شريطه، بقي بونويل في المكسيك التي كانت مركزه الرئيسي لبقية حياته. هناك، أخرج عشرين فيلماً آخر.
في عام 1960، تلقى دعوة من فرانكو للعودة إلى إسبانيا وإخراج فيلم هناك، فكانت النتيجة «فيريديانا» (١٩٦١ــــ ٩٠ د ــــ ٢٨/٩) الذي نال به السعفة الذهبية في «مهرجان كان السينمائي»، علماً بأنّ فرانكو حاول سحبه من المهرجان ومنعه من العرض. إذ إنّ الشريط الذي يحكي قصة راهبة تقع تحت إغواء قريبها، اتُّهم بالزندقة من قبل الفاتيكان، ومنع من العرض أيضاً في إسبانيا.
بعد سنة وإثر العودة إلى المكسيك، جاء فيلم «الملاك الفتاك» (١٩٨٢ــــ ٩٣ د ــــ ٢٩/٩)، كإحدى هوايات بونويل المفضلة في نقد البرجوازية بطريقة سريالية، من خلال قصة ضيوف مدعوّين إلى حفل عشاء وغير قادرين على المغادرة.
بعد ذلك، عاد لويس بونويل إلى العمل في فرنسا ليخرج العديد من أفلامه الهامة، بينها «جميلة النهار» (١٩٦٧ــــ ١٠١ د ــــ 30/9) عن زوجة بورجوازيّة (تؤدّي دورها كاترين دونوف) تقرر العمل كفتاة هوى لإرضاء نزواتها الجنسية، بعيداً عن زوجها الطبيب، و«تريستانا» (١٩٧٠ــــ ١٠١ د ـــ ١/١٠) وصولاً إلى «السحر الخفي للبورجوازية» (١٩٧٢ــــ ٩٧ د ـــ ٢/١٠). عندما سئل بونويل خلال إحدى المقابلات الصحافيّة، عن شخصياته المفضلة في «السحر الخفي للبورجوازية»، أجاب: «الصراصير». لا شك في أنّ كميّة الكره كان التي يبديها السريالي الساخر تجاه البورجوازية والسلطة هائلة وكبيرة. في تحفته تلك، يتلذذ السينمائي الكبير في توجيه نقده اللاذع لشخصياته المكروهة، ويواصل هجاءه للبرجوازية بأسلوبه السريالي الساحر، وهذه المرة من خلال مجموعة لا تتمكن من الجلوس لتناول عشائها بسبب وجود عائق ما كل مرة. والمفارقة أنّ الفيلم حاز أوسكار أفضل فيلم أجنبي.
أما «شبح الحرية» (١٩٧٤ــــ ١٠٤ د ـــ ٣/١٠)، شريط بونويل الشخصي وما قبل الأخير الذي فكر في الاعتزال بعده، فقد شكّل ذروة سرياليته في تحطيم البنية الروائية التقليدية من خلال سرده لمجموعة من القصص المختلفة التي تعتمد على المصادفة. ثم جاء فيلمه الأخير «ذلك الشيء الغامض للرغبة» (١٩٧٧ـــــ ١٠٣ـــــ ٤/١٠)، ليحكي قصة ثري فرنسي مهووس بكونشيتا في فيلم يغوص في الرغبة والسياسة. بعدها، اعتزل بونويل ليكتب مذكراته التي نشرها عام ١٩٨٢ تحت عنوان «تنهيدتي الأخيرة» قبل أن يرحل عام ١٩٨٣. مذهل هو الزخم الذي تميّزت به رحلة بونويل السينمائية والمتعددة. حياته الشخصية مثيرة كأفلامه أيضاً. سينمائي الأحلام والرغبات والنقد الدائم للثروة والدين والسلطة بأشكالها المتعددة، تشكّل استعادة أعماله في «متروبوليس» فرصةً ثمينة للاطلاع على نتاج هذا السينمائي العبقري.

«لويس بونويل: أحلام ووقائع»: الثامنة مساءً، ابتداءً من الليلة حتى 4 تشرين الأول (أكتوبر) ــــ «متروبوليس أمبير صوفيل» (الأشرفية/ بيروت). للاستعلام: 01/204080



دفاعاً عن الإنسانية

النفاق والجشع والأنانيّة البورجوازية هي سهام النقد الحاضرة دوماً عند بونويل. نقده للبورجوازية، يجسّد كرهه للعلاقات السلطوية في المجتمع. السلطة تتجسد أيضاً في نظرة الرغبة التي تبديها شخصياته الذكورية نحو النساء. التمرد هو ما يهمّ بونويل بوصفه مشروعاً لرفض القمع. وفي هذا كلّه احتفاء ودفاع عن الإنسانية من الاضطهاد السلطوي الديني والسياسي والاجتماعي.