لن يفارقنا عنوان مسرحية جون أوزبورن «انظر إلى الوراء بغضب»، ونحن نقرأ نصوص مسرحيين عرب شباب، جمعتهم ورشة للكتابة المسرحية الجديدة بمبادرة من المجلس الثقافي البريطاني، ومسرح «رويال كورت» في لندن، قبل ثلاث سنوات. النصوص التي صدرت في مجلد «مسرحيات عربية من الألفية الثالثة» (دار ممدوح عدوان ـــــــ دمشق)، تضعنا في مهبّ أسئلة عن توجهات المسرح العربي اليوم. أول ما يلفت انتباهنا في هذه النصوص هو القطيعة الجماعية مع الفصحى. ثمانية نصوص من لبنان ومصر وسوريا والمغرب وفلسطين اعتمد أصحابها العامية في نصوصهم.
المفردات خشنة وساخطة واحتجاجية. المكان في هذه النصوص ضيّق وكتيم وعدائي. غرفة، زنزانة، مقهى إنترنت. الشخصيات عالقة في فخ، وفقاً لما يقوله المشرفان على الورشة ديفيد غريغ وأبريل دي أنجيلس.
تباين المناخات بين جغرافيات عربية متعددة، لم يمنع هؤلاء الشباب من الالتقاء عند نقطة مشتركة هي التذمر والتمرّد على مفاهيم بات تقبلها صعباً، فهذا جيل «يفاوض بين الفايسبوك وعائلته للوصول إلى صيغة للعيش في العالم الحديث». تكمن أهمية هذه التجربة بأنها مكتوبة للخشبة مباشرة، ومحصّلة لارتجالات ومناقشات مستفيضة، خلّصتها من شوائب الكتابة الفردية، إذ خضعت الورشة لتقنيات تطوير الكتابة المسرحية الجديدة التي يشتهر بها مسرح «رويال كورت»، والتي تتضمن ألعاباً جسدية لكسر الكوابح الداخلية، والوعي بالديناميكية المكانية للمشهد.
هكذا حطّم المشرفون على الورشة الأفكار المسبقة «لكل كاتب صوته المتفرّد ووجهة نظره الخاصة»، بصرف النظر عن جنسيته وبيئته. الفكرة بدأت من دمشق، وخضعت لاختبارات لاحقة في تونس، وتبلورت في القاهرة بوجود ممثلين يؤدون النصوص. العلاقات الملتبسة بين الجنسين هي المحور الأكثر زخماً في اهتمامات الكتّاب الشباب.
يختزل المغربي جواد السنني في نصه «حسن لكليشي» هموم الشباب المغربي: الاستغلال الجنسي، والكولونيالية، والتطرف الديني، وحلم الهجرة. نتعرف إلى شاب يخترع اسماً وهمياً في العالم الافتراضي، ويتجوّل خلاله بين مواقف تصل إلى حدود الكوميديا السوداء. لهجة مغاربية مطعمة بالإنكليزية والفرنسية لاصطياد ضحية ما، تعلق في شباك «التشات»، فحسن لكليشي ـــ مزيج من أمراض التاريخ والقصص الشعبية، وأقوال الصحف. ذات ضائعة في متاهة الميديا الجديدة. شخصية ما بعد حداثية بعمامة مغربية.
في «انسحاب» للسوري محمد العطّار، يعيش عاشقان في غرفة مستأجرة، رهاب الاحتجاز. كاتب شاب عاطل من العمل، وموظفة تتمرد على محيطها «سرّاً»، كي تعيش بعيداً عن الضغوط اليومية، وقصة حب ورغبة تتبخّر على وقع خوف مجهول، وقلق موجع، وذاكرة متوقدة، تنبش ماضياً ثقيلاً ومكرراً.
من جهتها، تسعى اللبنانية أرزة خضر في «البيت» إلى هجر بيت العائلة كي تطوي ماضيه المريض. بيت مثقل بندوب الحرب والكراهية والموت. لا يبتعد اللبناني عبد الرحيم العوجي في «أرق الجميلة النائمة» عن مناخات الحرب اللبنانية بوجوهها المتعددة. مسرح مهجور في منطقة الطيونة في ما كان يعرف بخط التماس. هناك نلتقي قناصاً سابقاً في إحدى الميليشيات، وممثلاً مسرحياً، و«ف» الجميلة النائمة. الثلاثة عالقون في هذا المكان. أصوات متفجرات وأزيز طائرات يؤجلان رواية «الجميلة النائمة» لكسر العزلة، فتتكشف أسئلة عن ورطة الهوية، وهمجية الحرب السوريالية.
وتلتقط المصرية ليلى سليمان في نصها «منتجات مصرية» مفارقات مجتمع يعيش تناقضات شاسعة، وصراعاً مدمّراً بين حداثة مستعارة وقيم ماضوية تثقل بضلالها على العلاقات اليومية. شابة تعيش فراغاً عاطفياً، وكاتب مشهور يشكو الوحدة، وشاب انطوائي، واختصاصيون نفسيون وعطارون في فضاء واحد. فصول متلاحقة بمشهديات مختلفة تكشف عن أنماط من المنتجات المصرية التي تحتاج إلى علاج جماعي. الفلسطيني عماد فراجين في «603» يضعنا في زنزانة داخل سجن عسقلان. ثلاثة معتقلين ينتظرون قرار الإفراج الإسرائيلي عنهم مقابل الإفراج عن الجندي الإسرائيلي شاليط. لكن آمالهم تتبخّر تدريجاً، لنقرأ مونولوجات عن الانتظار الطويل وراء القضبان.
في فضاء آخر نلتقي مع «عطب» المغربي كمال خلادي، فهو يختار مخيماً في الكونغو مخصصاً لقوات حفظ السلام المغربية. الحرب مرة أخرى في منطقة ملتهبة، تنتشر فيها أمراض الطاعون والكوليرا. موتى أحياء، وحب وفراق، وتأثيرها على زوجين شابين. النص مشبع بشاعرية وجماليات بلاغية وسخريات عن تهاوي الأحلام والمُثل والخراب الروحي في رحلة ضياع بلا ملاذ. أما السوري عدنان العودة في «المرود والمكحلة»، فيفحص الفسيفساء السورية من دمشق إلى الفرات عبر حكايات متجاورة تضيء ميثيولوجيات المنطقة ولهجاتها وتكوّن تضاريسها الاجتماعية. أرمن وأكراد وبدو، وشوام، في علاقات متشابكة، تنطوي على حس تراجيدي، وعلاقات محرّمة، في سرد حكائي شفوي هو مزيج من التاريخ والعبث.