الرباط | في عام 2008، رأى المغني الشعبي المختار جدوان (1967) الرسول في أحد مناماته. قرّر اعتزال الفن نهائياً بعدما حظي بصدى واسع في المغرب، وكانت أغنياته تحتلّ مكاناً مميزاً في الحفلات والأعراس المغربية خلال التسعينيات، والعقد الأول من الألفية الثانية. تلك الرؤيا كانت دافعاً أساسياً لاعتزاله الفن. بعدها، أدّى المغني مناسك الحج وانطلق في حفظ القرآن، وتحول إلى داعية، لكن هذا التحول لم يكن وليد فراغ. منذ الثالثة والثلاثين، كان الرجل قد بدأ حفظ القرآن والمواظبة على الصلاة.
خلافاً لفنانين «تائبين» آخرين، فإنّ خصوصية جدوان تكمن في أنّه لم ينكفئ في بيته ويترك الحياة العامة، بل تحوّل إلى مقرئ للقرآن في العديد من المساجد. الفنّان «التائب» الذي يعدّ نفسه «داعية»، أطلق تصريحات للصحافة في أكثر من مناسبة. نلاحظ في تصريحاته إياها، انتماءً كبيراً إلى الفكر الإسلامي. ورغم أنّه لا ينتمي إلى أي تنظيم محدّد، إلا أنّه يجالس أعضاءً من جماعة «التوحيد والإصلاح» و«التبليغ» وحتى الصوفية، كما صرّح مرةً. وتتقاطع أفكاره مع العديد من أفكار هؤلاء... أفكار لا تحاول القطيعة مع المجتمع، بل تنطلق من فكر دعوي معتدل.
جدوان رأى الرسول. أما فنانون مغاربة آخرون، فجاء اعتزالهم رد فعل على حياتهم التي عدّوها بعيدة عن الله. فكرة تنتشر على نحو مثير للاهتمام في المغرب، الذي بدأ يشهد خلال السنوات الأخيرة أسلمة واسعة. الشاب رزقي أحد هؤلاء. في رمضان الماضي، نشر رزقي فيديو على يوتيوب يُظهر بوضوح استخدامه خطاب الحركات الإسلامية الراديكالية التي تنشط في المغرب. هذا لا يعني بالطبع انتماءه إليها، بل تبنّيه لبعض مقولاتها.
يردّد رزقي في التسجيل ما يسمّى «الأدلة الشرعية» على تحريم الغناء. وفي أحد مشاهد الفيديو، الذي لم تتجاوز مدته 3 دقائق، نراه يعلن «البراء» من كل ما أنتجه من ألبومات. علماً أنّ «البراء» من المقولات الأساسية في خطاب الحركات الإسلامية المتطرفة. أما المظهر الذي ظهر به (لحية وقميص)، فشبيه بمظهر الكثير من الشباب المغاربة الذين قرروا الانتماء إلى فكر إسلامي متطرف.
وإذا كان رزقي قد أثار جدلاً، وخصوصاً على مواقع التواصل الاجتماعي بين مشجّعين ورافضين لهذا القرار، فإن المغني steph ragga man فضّل الابتعاد عن الأضواء منذ مدة، من دون أن يعلن قرار اعتزاله، لكنّه هو الآخر أصبح يرتدي ملابس يصفها الإسلامويون بالشرعية (القميص التقليدي، إعفاء اللحية...) ويعيش حياة «ملتزمة» دينياً، كما ابتعد عن الأوساط الفنية.
وإذا كان المغنون الرجال يعيشون غالباً تحوّلاً يمكننا أن نصفه بـ «الأيديولوجي»، فإن قصص اعتزال المغنيات المغربيات قد تختلف بعض الشيء. معظمهن يتركن الساحة بفعل ضغوط اجتماعية ونفسية. الظاهرة ليست جديدة في الوسط الفني المغربي. مغنيات شهيرات قررن الاعتزال، أبرزهن عزيزة جلال، التي تزوجت في الثمانينيات رجل أعمال سعودياً اشترط عليها التخلي عن فنّها. بينما اختارت مغنية أخرى من نجمات الموسيقى المغربية حينذاك، وهي بهيجة إدريس، اعتزال الفن بصمت بعد سنوات من المجد، أدت فيها أغنيات أساسية في الريبرتوار الموسيقي المغربي.
وإذا كانت أسباب الاعتزال لدى مطربات الثمانينيات عائلية، فإن فنانات 2011 يطلقن تصريحات «غريبة» بخصوص رغبتهن في اعتزال الموسيقى. أحدث هذه التصريحات صدر أخيراً عن لطيفة رأفت، المغنية المحبوبة من المغاربة منذ الثمانينيات، إذ أعربت لجريدة جزائرية، عن رغبتها في الاعتزال... ما أحدث ضجة في أوساط الصحافة المغربية، ومحبيها. وإذا تمعّنا في تصريحها، يبدو لنا أنّ قرار المغنية يأتي لأسباب نفسية واجتماعية أساساً. وفاة أخيها قبل ثلاث سنوات كان وراء تفكيرها الجدي في الاعتزال، ثم تراجعت بعد اتصال من الملك محمد السادس كما تصرّح. لكنها ترى، في حديثها إلى الجريدة الجزائرية، أن قرار الاعتزال لا يزال في أجندتها، وأنها تنتظر فقط الوقت المناسب لذلك.
وعلى الرغم من حياتها «الليبرالية» واحترافها الغناء، تصرح رأفت للجريدة بأنّ غناء المرأة يتعارض مع الشرع لـ «أنها فتنة». وهو تناقض واضح بين الفكر والممارسة لا يخلو منه خطاب العديد من الفنانين المغاربة المعروفين باعتمادهم نمطاً متحرّراً في الحياة. ومع ذلك فهم لا ينفكون يطلقون تصريحات يصفها مواطنوهم بـ «الرجعية». قد يعود إطلاق هذه التصريحات إلى رغبة في إرضاء الجمهور، الذي هو الآخر لا يخلو من تناقضات. هو يستمع إلى موسيقى هؤلاء المغنين ويحبّها، لكنه يرى فيها ابتذالاً، في بعض الأحيان، ومخالفة للدين الإسلامي.



والعَوْدُ... بلخيّاط

إذا كان المغنون المغاربة يعتزلون الغناء على نحو ملحوظ في الفترة الأخيرة، إلا أنّ بعضهم يعود إليه أيضاً. وأبرز هؤلاء عبد الهادي بلخياط (1940) الذي قدّم مسيرة ناجحة استمرّت حتى أواخر الثمانينيات ثم اعتزل. وكان بلخياط قد أعلن اعتزاله الغناء العاطفي لأنّه بلغ سناً لا تسمح له بذلك، وأقدم حينها على الانكفاء في بعض مساجد الدار البيضاء، ورحل إلى دول آسيوية عدة، كما تحدّث كثيرون عن قربه من جماعة «التبليغ» الشهيرة، لكن هجره للفن لم يستمر، حيث عاد إلى عشه الطبيعي. في عام 2000، أطلّ مجدداً على الساحة وأنتج ألبوماً عام 2001، وقدّم العديد من الأمسيات في المهرجانات والمدن المغربية. وها هو يواصل حفلاته في مهرجانات عدة، من دون أن يعود إلى الحديث عن هذه الفترة من حياته في كنف «التوبة».