تابعت الكاتبة المصرية مي التلمساني أحداث «ثورة 25 يناير» من مقر إقامتها في كندا، حيث تعمل أستاذة للدراسات العربية في جامعة أوتاوا. لكن مع خلع حسني مبارك، استشعرت خطراً تعيشه الثورة بعدما سعت بعض القوى السياسية إلى القفز على مكتسباتها. لذلك، بادرت التلمساني مع مجموعة من الأصدقاء إلى إطلاق حملة «مصر دولة مدنية» بهدف توعية المواطن العادي على مكاسب الثورة وأسئلة المرحلة الراهنة.تشرح صاحبة «دنيا زاد» التجربة قائلة «هذه المبادرة انطلقت في شباط (فبراير) 2011. أسّست لها موقعاً الكترونياً يشارك في تحريره كل من وليد الخشاب، أستاذ الدراسات العربية في الجامعة نفسها، والكاتب ابراهيم فرغلي، والناشط السياسي رداميس هاني».
قبل إطلاق الموقع، نشرت التلمساني أثناء الثورة المصرية بياناً على فايسبوك تدعو فيه إلى تعديل المادة الثانية من الدستور، لكن هذه الدعوة وجدت رفضاً من قوى الإسلام السياسي في مصر، ومن بعض القوى الليبرالية، على اعتبار أنّ الوقت لم يكن مناسباً لطرح قضية مدنية الدولة على الرأي العام. لذلك، تبنت مبادرة «مصر دولة مدنية» شعاراً يقول: «بالأمس لم يكن الوقت مناسباً، غداً سيكون الوقت قد فات».
تشير الكاتبة والناقدة السينمائية التي تنتمي إلى عائلة اشتهرت بارتباطها بفن السينما، وبالحركة السريالية المصرية، الى أنّها تشعر اليوم بالرضى بعد إطلاق الفكرة وما لاقته من صدى في الرأي العام المصري: «أصبح مصطلح «الدولة المدنية» متفقاً عليه بين الكثير من القوى السياسية المصرية، بما فيها تلك التي كانت تصمه بمعاداة الدين. وهذا بحدّ ذاته انتصار للمبادرة ولكل الحركات المماثلة التى تدعو إلى دولة مدنية في مصر. مع التذكير بأنها أول مبادرة شبه فردية للدعوة إلى دولة مدنية تجوب محافظات مصر من القاهرة إلى أسوان، وتلتقي الناس في المدن والقرى بعيداً عن المؤسسات السياسية».
لا تشعر مي التلمساني بالخسارة «المعنوية» لأنّ النقاش الداعي الى تغيير المادة الثانية من الدستور المصري التي تنص على أنّ «الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع» قد تراجع. تؤكد أنّ «المادة الثانية تعاني تناقضات عرفها الدستور المصري على مدار عقود من تاريخه الحديث. وهي مادة مهمة وجوهرية لتحديد مستقبل مصر السياسي كدولة مدنية ديموقراطية. والتناقض كما تراه يتعلق بتعريف الدولة على اعتبارها دولة مدنية من ناحية، ثم اعتبارها دولة تحكمها مبادئ الشريعة الإسلامية من ناحية أخرى».
ورغم أنّ الصورة في المشهد السياسي المصري خلال الأيام الماضية أكدت على حضور فاعل لقوى الإسلام السياسي بصورة أفزعت «النخب المدنية»، إلا أن مي التلمساني لا تعاني كغيرها من المثقفين «الإسلاموفوبيا». ترى أن القوى الوطنية نجحت، أقله في تخليص مصطلح «مدنية» من شبهة التعدي على الأديان، ولم «يبق سوى أن نمهد لأهمية الحفاظ على مدنية الدولة من التلاعب الذي يجري الآن بهدف فرض المرجعية الإسلامية على الدستور والشعب المصريين».
بحسب صاحبة مبادرة «مصر دولة مدنية»، توحي بعض مواد الدستور بمدنية الدولة المصرية بمعنى المساواة في المواطنة، وفي الوقت عينه تنص المادة الثانية على أنّ الإسلام دين الدولة، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع. وهذا تناقض لا يمكن إلغاؤه عندما يقال أحياناً إن المادة الثانية شكلية المقصود بها المبادئ الإنسانية العامة المستقاة من الشريعة.
وتتساءل: «هل يصح اليوم ونحن نفكر في دستور ما بعد الثورة أن نحتفظ بمادة صفتها شكلية ودستوريتها مجرد كلام إنشائي؟ ويخرج علينا مفسّرون يخلطون بين كون الدولة ذات غالبية مسلمة، وهو واقع لا خلاف عليه، وكون البعض يسعى علناً أو سراً إلى تحويلها إلى دولة دينية إسلامية. والحقيقة أن أنصار الدولة الدينية الإسلامية يريدون استقطاب أنصار الدولة المدنية فيلعبون بالمصطلحات، ويحوّرونها لمصلحتهم السياسية. يدعون زوراً وبهتاناً أنّ الإسلام لا يعرف الدولة الدينية بمفهومها المسيحي الأوروبي. وهذا خطأ تاريخي فاضح وفادح».
وإذا كان بعضهم عدّ توافق القوى السياسية على الوثيقة التي أطلقتها مؤسسة الأزهر نوعاً من الحل التوافقي يحول دون الصدام بين القوى الليبرالية والقوى الاسلامية، فإنّ التلمساني تقف في معسكر آخر يرى أن هذه الوثيقة تؤسس للتبعية الدينية التي ترفضها، وتبني هذه التبعية وفقاً لمبادئ الفكر والشريعة الإسلاميين كما يرد في بنود الوثيقة الـ 11، وكلها (باستثناء البند السابع) لا تخلو من الإشارة إلى الإسلام كمرجع. «هذا الأمر مقبول من مؤسسة دينية كالأزهر. هذا شأنها وهذا توجّهها، لكنّه غير مقبول من القوى السياسية المصرية على عمومها. لا يمكن أن نقبل بتاتاً الانسياق وراء وهم التوافق على حساب الثورة وعلى حساب التعددية الفكرية».
وتتساءل مي بشيء من السخرية: «أي توافق ونحن ننكص إلى الوراء، ونؤكّد أنّنا «دولة وطنية ديموقراطية» ذات مرجعية دينية؟ أي توافق في نصّ يعود بنا مرة أخرى إلى الربط القهري بين الدين والدولة؟ وأي توافق هذا الذي يترك المصريين المسيحيين فريسة لمؤسساتهم الدينية، كأنّ الدولة تنسحب من مسؤوليتها تجاههم، وتخلق قانوناً موازياً تحكمه مرة أخرى الديانة والمؤسسة الدينية (أزهر أو كنيسة) لا قانون المواطنة؟ التوافق الذي تدعو إليه الوثيقة يرسّخ دور الأزهر كمؤسسة دينية تريد فرض نفسها على المؤسسة السياسية. وهذا مرفوض شكلاً وموضوعاً.
والأهم أنّ علينا أن ننتبه لدور الأزهر التاريخي في تأسيس فكرة الانصياع للحاكم، ومؤسسة الأزهر ذاتها في حاجة ماسة إلى التطهير والتطوير من الداخل. ربما عندما يحدث هذا فعلاً، سيصبح لتلك المؤسسة التاريخية العريقة شأن سياسي مهم. نحتاج في السنوات المقبلة إلى أن نستعيد ثقتنا بالأزهر، وأن يكفّ الأزهريون عن محاولة التدخل في السياسة، وفي الحريات الفكرية والعقائدية.



أفلام «توعية»

يعرض «مصر دولة مدنية»، الذي أطلقه مي التلمساني، أفلام فيديو صُوّرت مع شخصيات عامة. وتهدف إلى تبسيط النقاش بشأن مفاهيم مثل «المواطنة»، و«الدستور»، و«حرية التعبير»، و«الحقوق الثقافية» بهدف توعية المواطن لتقبّلها.
www.dawlamadaneya.com