ليس الحنين وحده، هو ما قاد أسعد عرابي (1941) إلى زمن أم كلثوم وعصرها الذهبي. فهذا التشكيلي والناقد السوري المعروف، لم يتوقّف يوماً عن توثيق الذاكرة العربية النهضوية، عبر محاولة دؤوبة لترميم عطب أنطولوجي أصاب المحترف العربي بنظرة استشراقية، في توهّم الحداثة وعولمة اللوحة. في معرضه الجديد «نوستالجيا» الذي تستضيفه «غاليري أيام» في دبي حتى 27 تشرين الأول (أكتوبر)، يستعيد مناخات مسرح كوكب الشرق، في بورتريهات تعبيرية متناوبة، تضبط حركتها الإيقاعية إيماءات أم كلثوم وحركتها على الخشبة. أم كلثوم بمنديلها الأبيض، وحنجرتها الذهبية التي تستدعي آهات لم تتكرر بعدها على الإطلاق.

يمزج أسعد عرابي بتعبيريته التطريبية المدروسة إيقاع اللون بحركة الأعضاء والآلات الموسيقية. نتوقف ملياً أمام وجوه العازفين، لن نخطئ موقع محمد القصبجي. العازف الذي رافق «الست» في مشوارها الطويل، وأهداها إحدى أجمل أغانيها «رق الحبيب»، متكئاً على عوده بنظرة ساهمة مغرقة بالأسى، لكنّ القصبجي سيغيب في لوحات أخرى، وسيبقى كرسيه فارغاً، من دون أن يحتله أحد سواه، وفي صياغة أخرى مقلوباً. الكرسي المقلوب مجاز آخر لأفول العصر الذهبي للنغم، واحتضار الموسيقى العربية بغياب الكبار.
بزغت فكرة هذا المعرض، كما يوضح عرابي، قبل سنتين من إنجازه. فهو اعتاد سماع أغاني أم كلثوم من محطة تلفزيونية، تبثّ أغانيها بانتظام. لكنّ السماع وحده، لم يكن كافياً لامتصاص روح هذه التجربة الفريدة في تاريخ الغناء العربي، وخصوصاً أنّها واكبت حقبة نهضوية مزدهرة، امتدت من ثلاثينيات القرن المنصرم إلى منتصف السبعينيات، أو لعلّها كانت أبرز ملامحها في تأصيل السماع.

من هنا يلتقط أسعد عرابي عناوين تلك الحقبة، بتخطيطات أولية مرتجلة، عبر نقلات متتالية لتوثيق صورة جماعية، محورها أم كلثوم في رحلتها التراجيدية من عمق الصعيد المصري، إلى أرقى خشبات المسارح العالمية، ثم راح يفكك عناصرها إلى وحدات تعبيرية متجاورة، تبعاً لمسار هذه المغامرة الموسيقية بإيقاعاتها التصاعدية. وإذا به ينخرط في فضاء هذه السينوغرافيا البصرية المذهلة، مستعيداً رحابة ذلك الزمن السعيد. فأم كلثوم ليست صوتاً عظيماً وحسب، إنها محطة أساسية في التاريخ العربي المعاصر، وصورة نادرة في ألبوم الغناء العربي.

يوقف الفنّان ساعة الحائط عند موعد استثنائي هو «حفلة الخميس» الشهرية. الحفلة التي كانت موعداً عربياً منتظراً، في زمن الراديو. المقام الصوتي في أغاني أم كلثوم يوازيه في هذه الأعمال مقام آخر للوجد اللوني، إلى شطح صوفي، وحسيّة صريحة. أغنية «عوّدت عيني على رؤياك» لرياض السنباطي مثلاً، في تكراراتها النغمية، حرّضت خطوطه كي تذهب إلى مقامات أبعد في أرشفة معنى السماع، واستعادة تفاصيل طقس شبه مقدّس، من دون أن تتخلى عن زخمها الثقافي.
لا يمكن عزل الحالة الكلثومية عن سياقها المعرفي، أليست هي تلخيص فريد لعناق العود والكمان، والدف والتشيللو في نوتة موسيقية واحدة؟ تنساق الخطوط الثخينة وراء الحركة النغمية بارتجالات موازية، كأن نرى عازف الناي بالمقلوب خلافاً لوضعيات بقية العازفين، فيما يحلّق منديل الست، ويكاد يطير بها إلى الأعلى، ببياضه الناصع. كأنّنا نسترجع حكاية تنتسب إلى الواقعية السحرية.

لا يلتفت أسعد عرابي إلى قسمات وجوه العازفين، بل إلى الشحنة التعبيرية التي تطغى على انفعالاتهم أثناء العزف. أمّا أم كلثوم نفسها، فتحضر ككتلة نغمية. فهي تكاد تحجب بجسدها الضخم أشكال العازفين، عدا القصبجي الذي يظهر خلفها مباشرة، مهما تبدّلت زاوية الرؤية. سننتبه إلى فستان الست الذي يغطيه الأزرق غالباً، والأبيض، في مزاج آخر. تناوب جحيمي بين اللذة والطهرانية، وآهة متفلتة من القيود. سلم موسيقي متكامل وضع عتبته الأولى أبو العلا محمد، ثم زكريا أحمد، ليتناسل تدريجاً بإيقاعات صوفية، من المنصة إلى الصالة، في نشوة لونية صريحة وبلطخات عريضة تحيل جسد العازف وآلته على حالة من التوحد والانخطاف.

ليست المرة الأولى التي تكون فيها أم كلثوم محوراً للوحة العربيّة. سبق أن شاهدنا أعمالاً تسترجع سيرتها وزمنها وجمهورها برؤى بصرية متباينة، نتذكّر هنا أعمال جورج البهجوري وعادل السيوي وآدم حنين، وآخرين... لكن أسعد عرابي في جدارياته هذه، يعبر بنا إلى تشخيصية محدثّة من مقام تعبيري آخر، لا تخلو من نبرة عاطفية. هذه التجربة في الواقع استمرار لمشروعه التشكيلي والجمالي، وتأكيد عليه: ترميم الذاكرة النهضوية العربية في علاماتها الأصيلة، والحفر بحثاً عن الكنوز العربية المخبوءة، مكاناً وشخوصاً.
نستعيد هنا تجاربه في تأويل الأساطير الآرامية، و«كليلة ودمنة»، ورسوم الواسطي، مروراً باستعادة دمشق القديمة في صرخة احتجاجية على ما آل إليه مصير مدينة عريقة ابتلعها الإسمنت، وأصابها التلوث البصري... ولعل الاشتغال على زمن أم كلثوم يصب في صلب هذا المشروع، سواء لجهة الحنين، أم لجهة التأويل.



«نوستالجيا»: حتى 27 تشرين الأول (أكتوبر) المقبل ـــــ «غاليري أيام» (دبي). للاستعلام: 0097143236243
www.ayyamgallery.com