باريس | طوال عقود، مثّلت فرنسا ملاذاً لصنّاع السينما الأميركية الفارين من الحملة المكارثية. لكن رياح الساركوزية التي هبت على موطن الأخوين لوميير عكست الآية. ها هو أشهر السينمائيين العرب الفرنسيين يتخذ من «المنفى الأميركي» ملاذاً من المكارثية الجديدة في فرنسا.
لقد أحدث رشيد بوشارب المخرج الجزائري المقيم في فرنسا، مفاجأة لم يتوقعها أحد في الأوساط السينمائية. صاحب «بلديون»، ابن الجيل الثاني من المهاجرين العرب في فرنسا، كشف أخيراً على موقعه rachidbouchareb.com أنه شرع في تصوير ثلاثية أميركية سيتفرغ لها لغاية صيف 2013. جاء ذلك في الوقت الذي كان فيه الجمهور ينتظر الجزء الأخير من ثلاثية أخرى بدأها مع «بلديون» (2006) عن العلاقات الإشكالية بين فرنسا ومستعمراتها المغاربية السابقة.
ورغم الحفاوة التي حظي بها «بلديون»، لم يتردد بوشارب في التجذيف عكس التيار في الجزء الثاني من تلك الثلاثية: «خارجون على القانون» (2010). في هذا الفيلم تعرّض لتابو الجرائم الاستعمارية الفرنسية، ما جعل فيلمه عرضةً لحملة مكارثية غير مسبوقة وصلت إلى حد تنظيم تظاهرات أمام قصر المهرجانات في «كان» للمطالبة بسحب الفيلم من البرمجة الرسمية للمهرجان (راجع الكادر أدناه).
تلك التجربة المريرة غذّت تهكنات متضاربة بشأن المسلك الذي سيختاره بوشارب في الجزء الأخير من ثلاثيته: هل ينحني للعاصفة، ويهادن الإستابلشمنت الفرنسي؟ أم يجازف بفيلم إشكالي آخر بعد الفشل التجاري الذي تكبّده «خارجون على القانون» بسبب الحملات المسيّسة التي تعرّض لها في فرنسا؟ وإذا بصاحب «غبار الحياة» (1994) يفاجئ الجميع بصفق الباب، مفضلاً المغادرة إلى «المنفى الأميركي»، وإرجاء استكمال ثلاثيته الفرنسية إلى ما بعد 2013، عسى أن تضع انتخابات الرئاسة الفرنسية المقبلة (نيسان/ أبريل 2012) حداً للمكارثية السياسية والإعلامية التي ألقت بظلالها على بلد فولتير منذ وصول ساركوزي إلى الحكم.
انتقال بوشارب إلى أميركا لم تحرّكه إغراءات «الحلم الهوليوودي» رغم انهمار العروض الأميركية عليه منذ النجاح الذي حقّقه «غبار الحياة» الذي رُشِّح لأوسكار أفضل فيلم أجنبي عام 1996. وكان أول عمل سينمائي عربي (وفرنسي) يقتحم دور العرض الأميركية. ولم يكن ذلك النجاح نابعاً من القيمة الفنية العالية للشريط فحسب، بل لموضوعه الذي كسر أحد التابوات الأميركية الموروثة عن حرب فيتنام. لقد كان «غبار الحياة» المصطلح الذي استُعمل أميركياً للتخلّي عن 20 ألف طفل وُلدوا خلال حرب فيتنام من زيجات أميركية ـــــ فتنامية. وبعد انسحاب الجيوش الأميركية، تُرك هؤلاء الأطفال لمصير قاس في معسكرات إعادة التأهيل الفيتنامية، بوصفهم ثمرة غير شرعية لزيجات تمثّل «عاراً» على الضمير الوطني.
رغم نجاح «غبار الحياة»، قاوم بوشارب الإغراء الهوليوودي عقداً كاملاً، مفضّلاً حميمية سينما المؤلف على سطحية السينما التجارية الأميركية. وكان لافتاً أنّه رفض العروض الهوليوودية، رغم أن الحلم الأميركي مثّل هاجس جيله من أبناء المهاجرين العرب في فرنسا الثمانينيات، وتيمة باكورته «العصا الحمراء» (1985).
إثر تفجيرات لندن في صيف 2005، فكّر بوشارب في فيلم يعكس النظرة الإشكالية إلى العرب في الغرب، منذ هجمات 11 أيلول (سبتمبر). وكانت ثمرة ذلك سيناريو London River (2009) الذي روى قصة أب وأم يتعارفان بالمصادفة خلال بحثهما عن ولديهما المفقودين بعد تفجيرات لندن. وقد اختار بوشارب أن يكون الأول زنجياً مسلماً من أصل أفريقي، والثانية مسيحية بيضاء من وسط أوروبي ميسور. لكن في خضم معاناتهما الإنسانية المشتركة، يكتشفان أن نقاط التقارب بينهما بوصفهما كائنين مفجوعين، أقوى من عوامل التنافر الناجمة عن سوء الفهم والأفكار المسبقة المتراكمة في مخيلة كل واحد منهما عن الآخر.
كان طبيعياً أن يكون الفيلم ناطقاً بالإنكليزية. فقد صُوِّر في لندن، وكان من إنتاج فرنسي ـــــ بريطاني ـــــ جزائري مشترك (مموّله الرئيسي تلفزيون Arte). وإذا بعامل اللغة يسهّل وصوله إلى الصالات الأميركية، حيث تلقّفه الموزع المستقلّ Cinema Libre Studio. بذلك اكتشف بوشارب الشبكات الموازية الخاصة بالسينما المستقلة الأميركية. وقد بدأت هذه الأخيرة تحقّق نجاحات متزايدة منذ التسعينيات بعيداً عن هيمنة الاستوديوهات الهوليوودية، خرج من معطف هذه السينما المستقلّة سينمائيون كبار من سبايك لي إلى الأخوين كوين...
خلال حملات الترويج لـ«نهر لندن» في أميركا، توطّدت الصلات بين رشيد بوشارب وCMG، أحد أبرز الاستوديوات المستقلة، فأقنعه بأنه يمكن تحقيق «الحلم الأميركي» من دون بيع روحه للشيطان الهوليوودي. وجاءت الحملة المكارثية التي أجهضت عروض «خارجون على القانون» في فرنسا، لتشجّع بوشارب على خوض التجربة الأميركية.
اللافت أن الاعتبارات المالية لم تؤدّ دوراً في اختياره «المنفى الأميركي». الجزء الأولى من ثلاثيته الأميركية سيكون فيلماً بعنوان Just Like a Woman (راجع الصفحة المقابلة) الذي صُوِّر هذا الصيف بميزانية متواضعة لم تتعد 3,5 ملايين دولار، أي أقل من نصف ميزانية «بلديون» التي بلغت 5 ملايين يورو!