يقولون في مصر «الجواب يبان من عنوانه»، وخليل كلفت مفكّر ومترجم تكشفه الابتسامة التي لا تفارق وجهه وتضيء بشرته السمراء، كما يضيئها لون شعره الفضي الذي لا يخفي سنواته السبعين، بقدر ما يمنحها طاقة نورانية لا تخفى على من يعرفه.مثقف من طراز خاص، جاء من النوبة (جنوب مصر) أوائل الستينيات، وانخرط باكراً في صفوف اليسار المصري. تنوّعت مساهماته بين النقد الأدبي، والتنظير لليسار العربي، وعمله كمترجم، واشتغاله على إنجاز القواميس والمعاجم اللغوية التي يرى أنّها تجدد دماء اللغة.
عندما ولد، لم يوثّق والده التاريخ بدقّة. «كان يتردّد في إصدار وثائق ميلاد لأولاده الذكور، خوفاً من أن يتخذوا قرارهم بالهجرة الى القاهرة والفرار من أرض الذهب». لا يرى خليل كلفت مخاوف والده دليلاً على موقف رجعي، بل يضعها في سياق تجربة الوالد نفسه الذي جاء أيضاً الى القاهرة في العشرينيات، وعمل طباخاً ثم عاد إلى النوبة ومعه مئات الكتب التي ظل يقرأها الى أن وضع الابن على الدرب نفسه.
بدوره، جاء خليل كلفت الى القاهرة بعدما أنهى دراسة الثانوية العامة، للالتحاق بكلية التجارة بناءً على نصيحة شقيقه الأكبر محمد التاجر في باب اللوق. لكن خلافات فكرية دبّت بينهما جعلت خليل يمضي في مسار آخر، ويترك الجامعة بعد عام واحد، في خطوة يجد لها تبريراتها: «هذا السلوك كان طبيعياً للمنخرطين في الوسط الأدبي. الشاعران عبد الرحمن الأبنودي وأمل دنقل فعلا الأمر نفسه».
في ذلك الزمان، كان نداء الشارع ووعوده أكبر من وعود الجامعة. جيل منفتح على المعرفة والأفكار والحياة، وما يمكن أن تتعلّمه في مقهى «ريش» أو «ايزافتش» أهم مما كنت ستعرفه في قاعات الدرس. وقتها، كان اليسار المصري يخوض معركته مع النظام الناصري، يلتقيان على الأهداف ويختلفان على الوسائل، ولم يكن خليل كلفت بعيداً عن المشهد. لكنّه لم يكن قد أصبح ماركسياً صافياً، فقد جاء من النوبة بخلطة «ماركسي وجودي» بحسب تعبيره. «بنيت معرفتي الماركسية بأسلوبي الخاص. عندما دخلت الأوساط الأدبية في القاهرة، كنت أستمع إلى نقاشات مثقفي جيلي ومنهم صلاح عيسى، وعبد الرحمن الأبنودي، ويحيي الطاهر عبد الله، وسيد حجاب. كان كلامهم يعجبني، لكنّي لم أدخل تنظيمهم اليساري المعروف بـ«وحدة الشيوعيين». بعد ذلك، انخرطت بحزب العمال الشيوعي المصري».
قبل ذلك، كان كلفت «دودة ندوات» يشارك في جميع الفعاليات الأدبية، سعياً إلى تكوين وجهة نظر في القضايا المطروحة آنذاك. كان مثل شيوعيي جيله يرى نظام عبد الناصر استبدادياً. وفي 1965، بدأ بنشر مقالاته الأدبية في مجلة «الآداب» البيروتيّة، ودراسات عن شعر خليل حاوي وعبد الوهاب البياتي وغيرهما، كما ساجل نقاداً كباراً، أبرزهم غالب هلسا. يصعب على خليل كلفت أن يتذكر سنوات شبابه من دون العودة الى ماضيه كناقد أدبي. «مرحلة النقد الأدبي كانت قصيرة في مسيرتي. ربما لا يتذكرها الناس لولا كتابي «خطوات أولية في النقد الأدبي» الذي تضمن مقالات نشرتُها في صحيفة «المساء» القاهرية خلال سنوات زهوها الأدبي. وهي السنوات التي ارتبطت برجل استثنائي في تاريخ الأدب المصري، هو عبد الفتاح الجمل، مظلة جيل الستينيات الأدبي».
في هذا الكتاب، كتب خليل مقدمة تشبه «الاعتذار» عن الأفكار النقدية التي اعتنقها في ماضيه، ولا سيما التزامه برؤى «الواقعية الاشتراكية» التي لم يعد مؤمناً بها. لكنّه يفسر قصر سنوات عمله كناقد بأنّ مقالاته كانت دوماً تلحّ على ارتباط النص الأدبي بمجتمعه، وظلّ هذا طاغياً في النقاشات التي دارت حولها، ما دفعه إلى تطوير أفكاره السياسية ضمن حركة يسارية كانت نشطة، لكنها تعاني من الآثار الجانبية لمعاركها وتحالفاتها مع نظام عبد الناصر. ما زال كلفت يعتبر الزعيم المصري الراحل «أحد زعماء العسكرتاريا الذين يأتون بعد الاستعمار في العالم الثالث، ليؤسسواً استقلالا شكلياً لا يلغي التبعية في الحقيقة، بل يكرّسها».
حتى الآن، لا يفكر خليل كلفت في كتابة مذكراته، رغم إيمان الكثير من مجايليه بمركزية دوره في تنظيمات اليسار المصري طوال السبعينيات. وهي سنوات يراجعها بموضوعية مدهشة، حتى إنه تجنّب الخوض في سيرة أشخاص، مفضّلاً التركيز على فكرة رئيسية: «إنّ المجموعات اليسارية في تلك الفترة قادها زعماء ذوو ادّعاءات واسعة حول الارتباط بالجماهير، في حين أنّ تنظيماتهم لم يكن لها صلة بالناس، وأنهكت نفسها في صراعات لم تمكّنها من التركيز على مطالب اجتماعية واضحة».
من بين ما كتبه أوائل الثمانينيات، يتذكّر كلفت مقاله الطويل عن المقاومة الفلسطينية وحتميتها. كتب هذا المقال عقب الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982 وناقش فيه أهمية خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت لإنقاذ «قوى الثورة» من أجل المستقبل، بدلاً من تدميرها بالكامل. لكن التطورات التي عاشتها الثورة الفلسطينية كما يقول: «كانت محبطة والقضية ذاتها بدأت بالتآكل».
«ثورة 25 يناير» أحيت لدى خليل كلفت آمالاً كثيرة في شأن إعادة الروح إلى اليسار المصري، رغم المخاطر التي تواجهها حاليّاً. فهي لا تزال «ثورة شعبية سياسية، أوقفها انقلاب عسكري من داخل النظام لحماية النظام القديم وليس لحماية الشعب».
وعن توقعاته للمستقبل، يغنّي كلفت بنبرته النوبية المحبّبة «إيه في أمل»... فالثورات تحدث تطورات اجتماعية وهذا هو الأهم بنظر كلفت. «في تقديري، تشهد مصر تحركات في هذا الاتجاه، لكنّ أكبر خطر عليها هو التبعية الاستعمارية. كل الثورات انتهت بنظام دكتاتوري وشخصيات تسيطر على الحكم. الأهمّ هو تحقيق الديموقراطية من أسفل. وشيء من القبيل يحدث في مصر من خلال النقابات المستقلة، والانتخابات التي تتم لانتخاب قيادات في مواقع كثيرة، ما يعني أن معركة التغيير متواصلة أمام الثورة المضادة».
في السنوات العشرين الأخيرة التي حوصرت فيها قوى اليسار، ركّز خليل كلفت جهده على مسارين: الأول يتعلّق بالترجمة التي احترفها، وعمل فيها على تلبية طموحه كمنظّر سياسي من جهة، وإيقاظ حسّه الأدبي عبر تقديم أصوات مهمشة في الأدب العالمي، وخصوصاً أدب أميركا اللاتينية، من الجهة الأخرى. أما المسار الثاني، فتجسّد في عمله على إنجاز القواميس والمعاجم اللغوية، والتنظير للنحو العربي. يقول كلفت «النحو مسألة أساسية لأن اللغة التي تتخلى عن نحوها، ولا تقدم أفكاراً تطوّرها إلى ممارسات يومية، تتراجع وتزول».
في اشتغاله على النحو، يرفض فكرة تبسيطه، إذ يرى أنّ النحو حتى اليوم «متخلف حتى لدى أعضاء مجمع اللغة العربية الذين لا يقدمون أي خدمات فعلية للغة». هناك خلط كبير بين الإعراب والنحو، وكل اللغات الحديثة أسقطت الإعراب، وراحت تؤسس لنحو يحاكي لغة الحياة... وهي خطوة لن يجرؤ أي مفكّر على التصدّي لها بعد الهجوم الذي واجه لويس عوض عندما طرحها في كتابه «في فقه اللغة العربية».



5 تواريخ

1941
الولادة في النوبة (أسوان)، وقد تم تسجيل ولادته في العام التالي

1965
بدأ نشر مقالاته النقدية والأدبية في مجلة «الآداب» البيروتيّة

1982
أصدر كتاب «الكارثة الفلسطينية»، منتقداً بعض الأفكار السياسية التي رآها آنذاك مدمرة لما بقي من قوّة للمقاومة

2009
أصدر كتابه «من أجل نحو عربي جديد» عن المجلس الأعلى للثقافة

2011
صدرت ترجمته لكتاب ألكسي دو توكفيل «النظام القديم والثورة الفرنسية»