الفنّانة المتجدّدة التي تستعيد ألقها وجاذبيّتها اليوم، تجاوزت السبعين من عمرها. لم تخطّ التجاعيد سنّها على جبينها؛ إذ إنّ حماستها وابتسامتها تمحوان آثار الزمن ومصاعبه. كأنّهما تعدان بمزيد من الثمار والخضرة. تتفنّن في انبعاثها من رمادها، وتداوي جرحها وأمراضها بالغناء. هكذا هي وردة الجزائرية («الأخبار» 30/8/2011)، امرأة قوية تتسلّح بإيمان صلب، ومطربة مجتهدة. الحفلة التي تقدّمها الليلة في «أسواق بيروت» (من تنظيم شركة Moon And Stars)، تعيدنا إلى الزمن الجميل، وتنعش ذاكرةً مهدّدة في ظلّ صعود موجة الفيديو كليب والفنّ التجاري المكتسح.
وردة ليست مطربة «ماضوية» أو ملتحقة بالعصر عشوائياً. اهتدت باكراً إلى المعادلة السحرية التي تجمع بين المنقضي والرائج من جهة، والشعبـ(و)ـي والنخبوي من جهة أخرى. إلى جانب ميّادة الحنّاوي وبضع مطربات، مثّلت معبراً بين الطرب الكلاسيكي التقليدي (أو ما يُعرف بالطرب الأصيل) والطرب الحديث والمعاصر، مع فارق أنّ وردة كانت تسترشد غالباً بـ«بوصلة» مصر (القاهرة تحديداً) على مستوى التلحين والتوزيع والغناء. وهو ما يتبدّى في خياراتها وتعاونها مع العديد من الملحّنين المصريين الذين أشهروها، وأسهموا في رسم مسارها وتكوين هويّتها الفنّية.
على برنامج حفلتها البيروتية أغنيات من ريبرتوارها الغنيّ والمحبّب: «قلبي سعيد» (من ألحان سيّد مكّاوي)، و«بَتْوَنِّسْ بيك» (صلاح الشرنوبي)، و«لولا الملامة» (محمّد عبد الوهاب)، و«حَرَّمْتْ أَحِبَّكْ»، و«طب وأنا مالي»، و«خلّيك هنا خلّيك»... برفقة فرقة يقودها بسام بدور، وتضمّ 25 عازفاً وكورساً من ثمانية منشدين، ستشدو وردة في جوّ احتفاليّ يمنح العيد روحه.
«خلال التمارين غنّت وردة باحترافيّتها المعهودة ونبرتها المعتّقة التي ازدادت نضجاً»، يقول بسام بدور. ويضيف: «العمر لم يشوّه صوتها، وعلامات الزمن تكاد تكون غير ملحوظة في أدائها. لا تزال السيّدة تتقن لعبة التطريب». تتضارب الآراء في صوت وردة وأدائها، وخصوصاً من العاملين في مجال الفنّ (ملحّنون، ونقّاد...). «وردة صوتٌ متوحّش يغنّي على مزاجه»، كتب محمّد عبد الوهاب في مدوّناته التي تناول فيها تجارب العديد من المطربين والملحّنين اللامعين بصراحة وحسم.
قد يستغرب بعضهم أن يكتب عبد الوهاب رأياً مشابهاً بعدما لحّن لوردة «في يوم وليلة» و«أنده عليك» و«إسأل دموع عينيا»... تصعب معرفة ما عناه «موسيقار الأجيال» من الناحية النقدية، ما يترك مجالاً للتخمين والاستنباط. حتّى لو كان تقويمه سلبياً نوعاً ما، يمكنك تحويره وفهْمه موضوعياً وإيجابياً؛ إذ يأخذك حُكمه إلى تأويلات تستعيد معها المحطّات الأساسية في مسيرة صاحبة «يا سيّدي»، فتحضرك إطلالات وردة منذ بداياتها.
أغنياتها التي انطبعت في الذاكرة والوجدان، اقترنت بصورتها وبحضور غنائي لافت. حالما تذكر اسمها، يستأثر بك استحضار ذهني (لا إرادي) يتيح تحسّس تطوّر أدائها، وبراعتها في التنقّل بين الأنماط الغنائية العربية: من الطرب الخفيف مروراً بالألوان الغنائية الشعبية وأغاني البوب المنسوجة على نول الطرب... الطرب يدمغ إذاً معظم أغنياتها حتّى تلك التي تكتسي طابعاً استهلاكياً، ويرخّم صوتها. قد يكون الصوت «المتوحّش» مرادفاً لصوتٍ أسطوريّ خارج التصنيف أو صوت جامح. المعنيان متناقضان. بمعزل عن رأي عبد الوهاب، يجب الاعتراف بأهمّية وردة الذي جاء متأخّراً على مستوى النقد. لو لم يكن صوتها عذباً ومتمكّناً، لما آمن بموهبتها بليغ حمدي، ومحمّد الموجي، ورياض السنباطي، وسيّد مكّاوي، وغيرهم...
ظُلمت وردة حين قورنت بأم كلثوم. أداؤها وصوتها لم يضاهيا أداء وصوت سعاد محمّد أو غيرها من المطربات النادرات. لا تملك وردة الجزائرية إمكانات صوتية استثنائية. مع ذلك، استطاعت بذكائها، ولدانة صوتها وثباته، وإحساسها الفريد أن تنال إعجاب الجمهور. منذ بداياتها، جمعت بين النفَس الشعبي والإتقان والاختلاف، ما مثّل لها مدخلاً إلى طريق الشهرة والتفوّق. السيّدة التي عايشت عمالقة الطرب وأغنت المكتبة الموسيقية العربية بأعمالها، لا تزال ديناميكية ومنتجة، وقادرة على جذب جمهور منوّع. بعد عيد الفطر، تصدر ألبومها «اللي ضاع من عمري» (روتانا)، وتعدنا بأسطوانة «أيّام». صاحبة «ياه عَ الدنيا» تبدو متفائلة بالربيع العربي لكنّها «تخشى من مظاهر الفوضى» كما قالت في إحدى مقابلاتها الأخيرة. «جئتُ إلى بيروت لأشارك اللبنانيين فرحهم، وخصوصاً أنّ لبنان عانى كثيراً».
لم يعد على الجمهور اللبناني إذاً سوى الاستعداد لموعد نادر، مع فنّانة مخضرمة تواصل رحلتها بمزيد من الشغف والاندفاع، وتضفي نكهة على العيد في بيروت.

حفلة وردة: 9:00 ليل اليوم ــ «أسواق بيروت». للاستعلام: 01/999666