1عن منشورات «الجمل» صدرت مجموعة شعرية ثانية للشاعر العراقي حسين علي يونس بعنوان «خزائن الليل»، وهي مختارات من مجاميع شعرية عدّة. وضمّ الديوان مختارات خوّلني الشاعر مهمة مراجعتها، قبل إرسالها إلى النشر. وبعد ذلك خوّلني الصديق الشاعر خالد المعالي، صاحب الدار، مهمة مراجعة نسختها الأخيرة قبل الطبع.
2
منذ سنوات كان حسين علي يونس قد جمع المتناثر والضائع من شعر الصديق الشاعر الراحل عقيل علي، ثم انتدبني لمراجعة النصوص، قبل إرسالها إلى الصديق المعالي لغرض النشر. هكذا صدرت أعمال عقيل علي شبه الكاملة بجهد خاص من لدن هذا الشاعر، يضاف إلى الجهد الأساسي الذي بذله الشاعر كاظم جهاد. هذا «النبش» في الجمالي من سيرة الفرد، لا ينتمي إلى ذلك الدأب في تلفيق تاريخ شخصي مهلهل، ولا ينتمي أيضاً إلى «النبش» المحموم بنيّة الإقصاء والتهميش. إنّه همّ لا يتيح نفسه إلا للصفوة النادرة. ذلك أن حسين علي يونس يعتبر ذاكرة حية ووفية للثقافة العراقية.
في بداية التسعينيات، كان «الصعلوك» الشاعر العراقي الأول الذي أشاع ثقافة الاستنساخ. أقصد أنّه وحده من تحدّى الحصار الداخلي الذي عانى منه الشعر العراقي على يد مؤسسة الثقافة الفاشية التي حكمت العراق أكثر من 35 عاماً. في بداية التسعينيات، كان حسين علي يونس يعكف على جمع الضائع من قصائد الشاعر الراحل جان دمو الصادرة عن «دار الأمد» تحت عنوان «أسمال...». يذكر أنّ دمو هو مَن أطلق على حسين لقب «الصعلوك»، لأنّه رأى فيه ذلك المشاكس والمتمرِّد في شعره... لكن المهذب والأنيق في سلوكه. لم يمنع العوز حسين علي من أن يكون مخلصاً لتمرّده على حياة مزوقة بالكذب. بعد حلم سقوط الدكتاتورية، حلّ كابوس الطائفية والمناطقية والعرقية في العراق. الشاعر الذي كان مطارداً من قبل النظام، اتخذ من مكتب صديقه مكاناً للمبيت والتخفّي. وعندما سقط النظام تماماً، شقّ الشاعر طريقه إلى أزقة بغداد ومقاهيها. لم تكن النجاة تعني له إلا مواصلة «نقد» العالم، وتسفيه «مسلّمات» إضافية حوّلت العراق إلى مستنقع من الرعب. هكذا أيضاً وجد طريقه إلى الصحافة، فعمل في الصفحة الثقافية لجريدة «الصباح» الرسمية، ثمّ طرد منها بعد أشهر. كان قد كتب يومذاك أنّ وزيز الثقافة أسعد الهاشمي غير مؤهل لعمله. ومن غريب المصادفات أن يُتّهم وزير الثقافة، بعد ذلك بشهرين، بجريمة قتل، فيفرّ خارج الوطن، تاركاً كرسيه لضحكة «الصعلوك» الشهيرة.
3
لم يكتب حسين علي يونس قصيدة خانعة في حياته. القصيدة الخانعة لسواه، أما قصيدته فجارحة، ونافذة إلى الصميم: «بغال كثيرة/ وهائلة/ حطمتْ حياتي/ وزربتْ عليها». هكذا تتحول «البغال» إلى استعارة كبرى، تشمل الممدوح والمدّاح، وتكتنف السلطان والقطيع الخائف. يسخر حسين الصعلوك في هذه القصيدة من الطغاة بمرارة. «لقد كنتُ ذات يوم قائداً كبيراً: رجل دولة من طراز رفيع، وتمثالي الذي يتوسط البلدة يرسّخ تلك الحكاية الغريبة. لقد عدتُ أخيراً إلى الحياة لآخذ مكان تمثالي الذي يلمع تحت الشمس».
لا يعني هذا أبداً أنّ حسين يكتب قصيدة سياسية، بل يكتب قصيدة غايتها جمالية بحتة. هو من قلة داخل الشعرية العراقية، تراهن على اعتناق الجمال مبدأً نضالياً ضد القبح، وبالتالي ضد الفاشية والأصولية. ذلك ما يخبرنا به الإهداء البسيط في بداية المجموعة: «إلى سيف، أخي». لأن سيف هذا فارق الحياة بعدما قتله الأصوليون بوحشية، ومع ذلك فإننا لا نجد في القصيدة المهداة إليه «مرثية سيف علي» نبرة الهجاء الغاضب، ولا المفاخرة في الشهادة. يضع حسين كل ذلك خلف ظهره، ويحفر له نفقاً نحو الجمال المطلق، من دون أن يزيّف انكساره الإنساني بعزاء ما. «نصيبكَ من الحياة/ كان عاصفة ضببها اليأسُ» أو «مضيتَ وتركتَ لنا غرائز من الدموع» أو «لقد تلاشت الخلاصة في الكائن ولقد مرّ ليلٌ من العطر».
4
إن أتعس ما خلّفته حقبة الديكتاتورية هو «ثقافة الضغينة»، إذ نجد نبرات مشكّكة في موهبة هذا أو ذاك. هذه النبرات لا تجد صداها إلا في الفراغ الكبير الذي تعيشه كائنات خاوية وخائفة (!). في بداية التسعينيات، عندما وصل الشاعر عقيل علي إلى بغداد، قادماً من مدينته الجنوبية البسيطة، تلقّته تلك النبرات المشككة بحفاوة، أسلمته إلى يد العوز، وبالتالي إلى نهايته الفاجعة. أعرف أنّ هذا الكلام لن يسرّ المجاميع الخائفة، غير أنّ المقام يستدعي أن نستعيد تلك النبرات المشككة في شاعرية عقيل، لنضعها أمام نبرات أخرى مشككة في شاعرية حسين علي يونس، وكونه قد سرق (!) من عقيل ما سرق («الأخبار» 8/ 7/ 2011). الآن صار «الهامش» مركزاً «بطريقة براغماتية، لكنّها مكشوفة على الأقل لنا... فنحن ــــ كما أسلفنا ــــ نعرف الاثنين معاً: الصعلوك وعقيلاً!
تتمتع قصيدة صديقنا الشاعر عقيل علي بلغة استعارية، تنتمي إلى القاموس الصوفي والعرفاني، وهي شديدة القرب منه، أي من عقيل، لا من أي قاموس شعري آخر. انتماء لغته إلى القاموس الصوفي والعرفاني لم يُنتج قصيدة صوفية أو عرفانية، بل قصيدة متشظية، عكسته ككائن متمزق. في مقال سابق كتبنا أنّ قاموس حسين علي يونس الشعري هو كل اللغة، وهو من أجل أن يقدّم رؤيته كاملة لا يتورع عن استخدام مفردة شائعة أو محكيّة، كما أن ساحة المعركة للصعلوك مفتوحة على الداخل والخارج. هكذا يمكن القول إنّ هموم يونس الشعرية متوزعة الاتجاهات، وفي مختلف المناطق. لكن ما يميّزه كشاعر له بصمته الخاصة هو الاقتصاد اللغوي، والتقشف.
لا توجد قصيدة مترهلة عند يونس. توجد دائماً قصيدة نحيفة، ضامرة، لكن متفجّرة. «تأملي خطواتنا التي نتركها على الماء: أودّها أبدية، مثلك»، أو «من الكأس تخرج قرى من الليالي». أما بالنسبة إلى قلقه من جمود الكلمة، فقد اتبع الشاعر استراتيجية مهمّة، هي «التحرير» أو «إعادة الصياغة». فالقصيدة عنده مشروع مفتوح على احتمالات كثيرة، منها الإلغاء والشطب، ومنها إعادة الكتابة. يتضح ذلك في ضغط مخطوطات شعرية عدّة في كتاب واحد. هذا الضغط، في تقديري، ينطوي على شجاعة تنقص مجموعات خائفة، تعتقد بأصولية ما تكتب.
5
كتاب «خزائن الليل» إذاً كتاب شخصي جداً يحيل على صاحبه. وكلُّ مَن عرف الشاعر أو تابعه، وجد عليه بصمته الخاصة التي تمتد من السخرية المريرة إلى الحكمة المتعالية. في قصيدة «كآبة أنكيدو» يرتدي الشاعر قناع البطل الأسطوري، ليكتب أسطورته الخاصة. أنكيدو الذي كان تابعاً لجلجامش، يتحول في هذا القصيدة إلى سيد نفسه. أوروك التي كان يحكمها جلجامش تصير هنا بابل العاصمة الشهيرة، وبطلها نبوخذ نصر. إنه ــــ أي الشاعر ــــ يقذف بأنكيدو في أتون أزمنة عدة ليعطينا دهشة قصيدة النثر. «ما الذي يمكن فعله في هكذا يوم أغبر يشعرك بثقل الوجود وبوطأته؟ مدينة بابل العفنة التي تفتقر إلى التناسق، لا تدهشني هذه الأيام، كذلك الأيام في قلب هذه المدينة التي تأخذ شكلاً واحداً رطباً وعفناً». هكذا يكتب حسين علي يونس قصيدته، عبر لغة بسيطة، غير متكلفة. بل هي غالباً ما تكون خالية من الاستعارات والمجازات، ليحقّق، في النهاية، رؤية شعرية باهرة، باعتماده الإزاحة التي تولدها المفارقة. وهو بذلك يقف في الطرف الأقصى البعيد، عن قصيدة الشاعر عقيل علي التي غالباً ما تعتمد المجاز والاستعارة اللغوية لتحقيق شعريتها.

* شاعر عراقي




سيرة ثقافية

بعد «خزائن الليل» الصادر عن «دار الجمل»، يستعدّ حسين علي يونس (1967) لطباعة مخطوط رواية عمل عليها قبل 15 عاماً، وستصدر بعنوان «المتاهة الكونية للفكر»، وهي سيرة ثقافية عن الوضع الثقافي في العراق. وهو يضع حالياً اللمسات الأخيرة على مجموعة شعريّة جديدة بعنوان «لقد طرتُ فوق الزمن».