دمشق | على طريق المزة وتحديداً في إحدى غرف «مستشفى الرازي»، لفظ الموسيقار السوري صبحي جارور أنفاسه الأخيرة ليلة أول من أمس بعد مسيرة خصبة من الإبداع. رحل جارور إثر نوبة لم يستطع قلبه أن يحتملها عن عمر ناهز السابعة والستين. عمرٌ قضاه ملازماً لآلة الكمان التي عشقها وعزف عليها أجمل المقطوعات التي سجلت باسمه، حتى تحول إلى ماركة مسجلة في عالم الموسيقى العربية، وواحد من أهم الشخصيات الموسيقية في سوريا. ومع ذلك، عانى جارور تقصير الإعلام بحقه، رغم أنه من جيل المؤسسين والرواد. وقد أسهم في تعليم قسم كبير من الموسيقيين قبل أن ينطلقوا إلى عالم الشهرة. ولد الفنان في أحياء دمشق سنة 1944 وعشق الموسيقى منذ طفولته. ثم انتسب في سن الرابعة عشرة إلى فرقة «إذاعة دمشق» ولاحقاً انضم إلى فرقة «التلفزيون السوري» عند تأسيسه سنة 1960 ليشيد به آنذاك كبار الموسيقيين والإعلاميين والنقاد. وقد ارتبط اسم جارور في ما بعد بأشهر البرامج الموسيقية والمنوعة التي قدمها التلفزيون الرسمي عبر تاريخه كبرنامج «طريق النجوم»، الذي كان يعنى بالمواهب الغنائية الشابة.
الفنان العراقي رعد خلف المقيم في سوريا منذ سنوات بدا حزيناً لرحيل جارور. يقول في حديث مع «الأخبار»: «لم يسبق أن اجتمعت مع الراحل صبحي جارور في عمل فني، لكن منذ وصولي إلى سوريا عام 1990، تعرفت إلىه، وخبرته موسيقياً استثنائياً في الواقع الثقافي المحلي الذي كان وما زال يحتاج إلى فنانين وموسيقيين من أمثاله». ويضيف: «ما يميز تجربة الفنان الراحل هو أساسه الموسيقي الجديد والأكاديمي، هذا ما رشحه لتسلم قيادة فرقة الإذاعة والتلفزيون الموسيقية... وما جعله يحمل على عاتقه أعباءً كثيرة، كما استفاد من دراسته الموسيقية الأكاديمية في تقديم محاولات مختلفة، لتطوير الموسيقى الشرقية، وأضاف الكثير إلى التراث الموسيقي العربي». كذلك، يتحدّث خلف عن سعي جارور إلى تقديم «الأغنية السورية، بكل أشكالها، وأجناسها، وأنماطها... لذلك تجد أنه عمل طيلة حياته مع فرق موسيقية ومغنين سوريين، ولم يحاول يوماً الخروج بعيداً عن حدود بلده».
أما عميد المعهد العالي للموسيقى في دمشق أثيل حمدان، فقد أكد على أهمية وحضور الفنان الراحل في الحياة الموسيقية السورية، وعدّه «واحداً من أوائل العازفين الموسيقيين في سوريا، الذين اتجهوا إلى العزف الشرقي، وكان له حضور واضح على الساحة الموسيقية العربية بعد غياب العازف عبود عبد العال على صعيد العزف على آلة الكمان الشرقي». وأكد حمدان أنّ من أهم الآثار الموسيقية التي تركها الراحل محاولاته تطوير مقامات الموسيقى الشرقية. وأضاف «لطالما ظلم الفنان الراحل، ولم يأخذ حقه وفرصته كاملة، حاله كحال الكثير من الفنانين السوريين، وكان يستحق قدراً واهتماماً كبيراً». وعن تجربة الفنان الراحل في تطوير تقنيات آلة الكمان على نحو خاص، والموسيقى الشرقية على نحو عام، يقول حمدان «حاول جارور العمل كثيراً، على تطوير قدرات آلة الكمان، مازجاً بين تكنيك العزف الغربي، وروح الموسيقى الشرقية التي تتطلب من العازف تفهماً وانسجاماً كبيرين، حتى لا تفقد الألحان التي يقدمها، بوصلتها وآليتها وروحها في آن واحد... جميعنا نذكر التقاسيم الشرقية التي كان وما زال يقدمها التلفزيون السوري في رمضان قبيل موعد الإفطار، هذه الألحان كان يقدمها الفنان الراحل بتقنية وأسلوب السهل الممتنع».
وعن شكل وطبيعة التكريم الذي يرجوه حمدان للراحل، يقول:«لقد مللنا حفلات التأبين التي تعمل عليها الجهات الرسمية. ما أرجوه بحق، هو توثيق مجمل ما قدمه الفنان الراحل، من تسجيلات موسيقية، وطباعتها على أقراص مدمجة، وتوزيعها على المهتمين. ربما هذه أفضل طريقة مقنعة، لتكريم موسيقي سوري استثنائي، قضى جل حياته في العمل على تطوير الموسيقى السورية»
هكذا غادر المايسترو السوري الشهير على وقع مقطوعاته الحزينة التي حفرت عميقاً في وجدان كل من عاصره وطرب لنغمة كمانه. وفي جنازة شارك فيها العديد من الفنانين، شُيّع جثمانه عصر أمس من «جامع لالاباشا» مقابل نقابة الفنانين في شارع بغداد إلى مقبرة باب الصغير في باب الجابية في دمشق القديمة.



إهمال وتقصير

عندما احتفل العالم العربي بـ«دمشق عاصمة للثقافة العربية» عام 2008، كان الراحل صبحي جارور يشكو من إهمال الجهات المعنية له. وتساءل يومها: «هل من المعقول أن أُركن جانباً بعد مسيرة فنية قاربت الخمسين عاماً، كنت فيها عازفاً وقائد فرقة موسيقية في الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون... وعزفت خلال هذه المسيرة الطويلة أمام كبار المطربين والمطربات العرب... واليوم تطلب مني نقابة الفنانين العمل في الملاهي الليلية؟». ثم ألقى بلومه على «التلفزيون السوري»، متسائلاً عن مصير عشرات المقطوعات الموسيقية التي سجلها في أرشيف التلفزيون، ولم تعرض بعد «كأن المطلوب تغييبي عن التلفزيون والساحة الفنية عموماً».