القاهرة | يقول مولانا جلال الدين الرومي: «ليس في العالم خيال دون حقيقة». مقولة رافقت نجمنا الكبير نور الشريف (1946 ــ 2015) طوال مشواره الذي طواه الموت أمس. رحل الممثل المعروف في «مستشفى الصفا» في القاهرة بعد معاناة شديدة مع المرض، إذ كان يعاني من سرطان الرئة، وخضع لجلسات علاج عدة في أميركا.
كان الشريف دائماً يقف على أرضية صلبة لينطلق منها ويحلق في عالم الخيال ويبدع، مهما كان شكل الإبداع. بداية من لعب كرة القدم في شوارع «السيدة زينب»، ذلك الحي القديم والأصيل الذي انعكس على كل تفاصيل شخصيته، مروراً بموهبته في التمثيل والإخراج، وحتى في اكتشاف المواهب. في هذا المجال، امتلك نور الشريف عين خبير في الألماس، ورحابة تبنّي المواهب الجديدة والصبر على صقلها. هذا ما تؤكده مكتبته الخاصة في الركن المميّز في منزله الذي كان يجلس فيه ليقرأ ويتأمل.
من يخطو داخل هذا الركن سيعرف أكثر كيف امتزجت الموهبة بالحس الإنساني. فالجدران المصنوعة من خشب معشّق ذي طابع فني فريد، تضم كلمات لابن عربي وجلال الدين الرومي وغيرهما من المتصوّفة، وهو ما يعكس الجهد الذي بذله الممثل المصري ليصل إلى ما يُعرف بـ«فضيلة الاستغناء» من خلال عشقه للتأمل. هو يتحدّث متى كان للحديث ضرورة، ويفضّل الإنصات. تلك عادته منذ الشباب، حين كان سلاحه الصمت والتأمل في مواجهة ما لا يرضيه.

أوّل أدواره السينمائية كان
مع المخرج حسن الإمام في «قصر الشوق» لنجيب محفوظ

ويبدو أنّ الفتى العاشق لكرة القدم والتمثيل في شوارع مصر القديمة، كان يدرك ضرورة أن يحلّق بخياله. رغم يتمه، عرف أنّ اللحظة ستأتيه ويملك الخشبة، سواء خشبة الملعب أو المسرح. كان يعشق الكرة والفن، لكن الشغف الأكبر كان لخشبة المسرح. دخلها وقدّم تجربته الأولى «الشوارع الخلفية»، ومن بعدها انطلق كموهبة واعدة، مع كبار المخرجين.
محمد جابر محمد عبدالله أو نور الشريف هو واحد من نجوم الفن العربي والمصري الذي يمتلك تاريخاً شديد الثراء والتنوّع، ويدرك جيداً أهمية ودور الفن، وضرورة التنوع. لذلك، فهو من النجوم القلائل الذين نجدهم يمتلكون مشواراً حافلاً بأفلام تجارية سارت جنباً إلى جنب مع الأفلام ذات القيمة الفنية، التي تعد من كلاسيكيات السينما المصرية والعربية، إضافة إلى مسرحيات ومسلسلات لا تقل تنوّعاً. عمل نور الشريف مع معظم المخرجين، بدءاً من حسن الإمام ومحمد فاضل، وداود عبد السيد وعاطف الطيب ويوسف شاهين وسمير سيف، وصولاً إلى أمير رمسيس آخر المخرجين الشباب الذين تعامل معهم في فيلمه «بتوقيت القاهرة» (2015).

ومن يتأمّل وضع السينما المصرية، سيجد أنّ تجربة جيل الثمانينيات شديدة التميّز ويصعب تكرارها، ليس فقط على مستوى الإنتاج بل لأنّها قدّمت أفضل الإنتاجات لمخرجين مثل عاطف الطيب، وداود عبد السيد، وعلي عبد الخالق، وخيري بشارة، ورضوان الكاشف، وشريف عرفة. وساهم نور في إطلاق مواهب البعض وقدّمهم وأنتج لهم أولى تجاربهم السينمائية، ومنهم سمير سيف ومحمد النجار وداود عبد السيد ومحمد خان. لذلك وكما قال عنه الكاتب الكبير خيري شلبي عندما قرّر أن يصف موهبته: «رق الإناء وراقت الخمر... فتشابها واختلط الأمر... فكأنما خمر ولا قدح... وكأنّما قدح ولا خمر». هنا، يقصد شلبي أنّ موهبة نور الشريف تماهت مع الفن وصار كل منهما مرادفاً للآخر. لذلك فإنّ أي قراءة فنية لسينما نور الشريف، والمرور على ملامح البطل الذي قدّمه في أفلامه التي تجاوز عددها الـ 200، إنّما هي أيضاً مراجعة اجتماعية خلال أربعة عقود. نلاحظ تنوّع الشخصيات التي جسّدها الفتى البريء المكافح ضحية الفساد في بعض الأحيان، أو «الفتوّة» الشعبي أو المواطن المقهور ضحية الانفتاح الاقتصادي الذي يقرّر أن يأخذ حقه بيده، أو الشاب السياسي الحالم الذي يفرمه نظام ديكتاتوري مستبد. لذلك، فمراجعة سينما نور الشريف في جزء كبير منها مراجعة أيضاً للتاريخ السياسي والاجتماعي للحياة المصرية والعربية، ومنها مثلاً دور «حسن سلطان» في فيلم «سوّاق الأوتوبيس» (1982) الذي يعد إحدى أيقونات السينما العربية. القصة لمحمد خان والسيناريو والحوار للكاتب بشير الديك، والإخراج للمبدع عاطف الطيب الذي شكل مع بشير ونور ثالوثاً يقدّم سينما متفرّدة في مفرداتها الإبداعية. وقد أدّى نور الشريف دور «حسن سلطان» باقتدار شديد وتماهٍ مع الشخصية إلى درجة التألق، ما أسهم في حصوله على جائزة «مهرجان نيودلهي الدولي»، ليكون أوّل ممثل مصري ينال جائزة دولية. وكان الفيلم من أعمال الواقعية الجديدة في السينما المصرية، وحمل إدانة كاملة لعصر الانفتاح وتآكل الطبقة المتوسطة، كما أنّه انتهى بصرخة نور الشهيرة «يا ولاد الكلب» في إدانة لكل ما يحدث من تحوّلات اقتصادية وسياسية واجتماعية.
واستمرت رحلة الإبداع بين نور وعاطف وتوالت الأعمال المهمة ومنها «الزمار» (1985) و«ضربة معلم» (1987). الأوّل مأخوذ عن مسرحية «هبوط أورفيوس» للكاتب تينسي ويليامز وسيناريو رفيق الصبان وعبد الرحيم منصور، والأغاني لبليغ حمدي. يتناول الشريط قصة الشاب الطالب في كلية الهندسة الذي يقدّم مسرحية تجعله مُضطهداً ومُطارداً من قبل السلطة، ويعد محاولة أخرى من عاطف الطيب ونور الشريف لفضح الفساد أوّلاً ثم الثورة عليه.
وكما شكلت سينما عاطف الطيب ونور وبشير حالة خاصة، نلاحظ أيضاً أنّ نور الشريف هو أكثر فنان قدّم أفلاماً للسينما العربية مأخوذة عن روايات لنجيب محفوظ. ولم تكن مصادفة أنّ أوّل دور يقدّمه نور في السينما مع المخرج حسن الإمام كان «قصر الشوق» لنجيب محفوظ، وقد نال عنه جائزة وزارة الثقافة كأفضل ممثل وكانت أوّل جائزة في حياته. كان نور عاشقاً لأدب محفوظ، وخصوصاً أنّ الاثنين ابنا حيين من أعرق أحياء القاهرة «الجمالية» و«السيدة زينب». وحسبما قال نور في تصريحاته إنّه «وقع في غرام أدب نجيب محفوظ منذ أن كان طالباً في المدرسة ووجد نفسه مفتوناً بفلسفته ومكوناتها وأفكاره وشخصياته الدرامية».
ومن أهم الروايات التي قدمها للسينما وحققت جماهيرية ونجاحاً: «الحرافيش»، و«السراب»، و«أهل القمة»، و«المطارد»، و«قلب الليل»، و«الكرنك»، و«الشيطان يعظ». وكان محفوظ قد أعطى شهادة عن تجسيد نور الشريف لشخوص رواياته في حوار مع الصحافية نعم الباز نشر في مجلة «آخر ساعة» ( كانون الأوّل (ديسمبر) 1980 ). أكد محفوظ أنّ نور أدهشه بأدائه لأدوار بعض أبطاله، قائلاً إنّ «نور الشريف حينما يمثل لا يكون ذاته وإنّما يكون الشخصية التي رسمتها. والحقيقة أنّه مثل لي روايات عديدة ودخل في نسيج العديد من رواياتي، لكن إذا بحثت عن شخصيته الأصلية لا تجدينها، وحين رشّحه المخرج حسن الإمام لشخصية كمال عبد الجواد كان أهم ما يعنيني أن يجسّد الخيال كما صوّرته تماماً. وفعلاً جسّده أجمل تجسيد وأحسست بالتوحّد. فهو يتجسّد لي في كل شخصية بقدرة كبيرة، لكنني تعجبت جداً حينما رأيته يجسّد شخصيات أبعد ما تكون عن شخصية كمال عبد الجواد مثل دور «زعتر النوري» في «أهل القمة» و«الشيطان يعظ». وحين أخبروني أنّه سيمثل أهل القمة فرحت وقلقت، فرحت كونه نجماً وفناناً كبيراً، وقلقت لأنّ الدور بعيد عن مكوناته، لكنه نجح نجاحاً دلّ على مرونة فنية. لذلك أكون سعيداً جداً حين أعلم بأنّه سيمثل رواية لي».
ولأنّه نور الشريف صاحب الرؤى السياسية والقومي العروبي، لم يتردد في تقديم فيلم عن «ناجي العلي» أثار موجات من الغضب والنقد وحملات الهجوم الشرس من قبل صحيفة حكومية شهيرة (أخبار اليوم) كُرست بالكامل للهجوم على نور الشريف وعاطف الطيب، إلى حد اتهامهما بالخيانة. الهجوم بدأ قبل عرض الفيلم، وبمجرد العلم بأنّ الثنائي يشرعان بتقديم شخصية رسام الكاريكاتور الفلسطيني ناجي العلي من خلال فيلم.
نور الشريف ليس مجرّد فنان، بل هو من أصحاب الرؤى في الفن والحياة والسياسة. شعاره هو «الحرية»؛ حرية الإنسان أو كما جاء في فيلمه «حدوتة مصرية» مع المخرج يوسف شاهين: «لا يهمني اسمك ولا يهمني عنوانك لا يهمني لونك ولا ميلادك، يهمني الإنسان ولو مالوش عنوان». لذلك، دفع نور ثمناً للكثير من آرائه السياسية والفنية.

* تقام صلاة الجنازة عليه اليوم الأربعاء من «مسجد الشرطة» في مدينة أكتوبر (القاهرة) عقب صلاة الظهر مباشرة.