غيّب الموت عن سبعين عاماً راوول رويز. السينمائي التشيلي المقيم في فرنسا، يعتبر أحد أبرز رموز السينما اللاتينية وأغزرها إنتاجاً. خلّف صاحب «مكان بين الأحياء» (2003) فيلموغرافيا ضخمة، تضم 117 عملاً سينمائياً. كان آخرها «أسرار لشبونة» (2010) الذي نال عنه جائزة «لوي دولوك» (توصف في فرنسا بـ«غونكور السينما»). كان هذا العمل الضخم (4 ساعات ونصف الساعة)، المقتبس من ثلاثية الروائي البرتغالي كاميليو كاستيلو برانكو، بمثابة الفيلم ـــ الوصية بالنسبة إلى رويز. فقد صوّره عشية إجرائه عملية لزرع الكبد، إثر إصابته بورم سرطاني. «صوّرت كل مشهد من هذا الفيلم، وأنا أشعر بأنه قد يكون عملي الأخير»، كما اعترف لاحقاً. وإذا كان راوول رويز قد تغلّب على السرطان، فإن الموت خطفه في باريس، إثر التهاب رئوي مفاجئ يوم الجمعة الماضي، قبل أسابيع قليلة من بدء تصوير فيلم جديد له عن نابوليون بونابرت. لكنّ «أسرار لشبونة» لن يكون عمله الأخير، إذ أعلن منتجه فرانسوا مارغولان أنّ صاحب «ثلاث حيوات وموت واحد» (1996) كان بصدد استكمال مونتاج فيلم مستوحى من ذكريات طفولته.
تحدّث راوول رويز بإسهاب عن تجربته مع السرطان، بروح الفكاهة السوداء المعروفة عنه: «قبل العملية، قال لي الطبيب: الورم الذي تعاني منه غريب، ويستعصي على التصنيف، لأن بنيته مغايرة للمألوف! فأجبته ضاحكاً: هل أنت جرّاح أم ناقد سينمائي؟ فهذا التوصيف مطابق تماماً لما يُقال عن أفلامي!». بالفعل، مثّل الاشتغال على البنية السردية الهاجس المركزي في أعمال رويز. طيلة مسيرته، لم يتوقّف عن خلخلة اليقينيات، والأنماط الفنية الجاهزة، سواءً في أفلامه أو في مؤلفاته النقدية (راجع الإطار أدناه).
اعتبرت أعماله الأولى بمثابة امتداد سينمائي للواقعية السحرية في الأدب اللاتيني، إذ انطبعت بتأثيرات واضحة من ماركيز وبورخيس. «تانغو الأرمل» (1967) و«ثلاثة نمور حزينة» («الفهد الذهبي» في «مهرجان لوكارنو»، 1969) أسهما في التعريف به على نطاق واسع خارج بلاده. لكنّ ذلك لم يحصّنه من انتقادات رفاقه اليساريين، في عهد سلفادور الليندي. كان رويز أحد المستشارين السينمائيين لحزب «الوحدة الشعبية»، واشترك مع جايمس بيكيت، ونينا سيرانو، وساول لاندو في إنتاج وإخراج الفيلم الجماعي «ما العمل؟» (1970) الذي صوّر وقائع الحملة الانتخابية التي أوصلت الليندي إلى الحكم. ثم اختلف رويز مع أقرانه، مفضّلاً الأسلوب الباروكي لـ«السينما البرازيلية الجديدة» على أفلام البروباغندا ذات النمط السوفياتي. لكن أعماله سرعان ما استعادت نفسها النضالي اليساري بعد خروجه إلى المنفى، إثر انقلاب بينوشيه عام 1973. أنجز في العام نفسه شريط «المصادرة» عن المؤامرة الاستعماريّة الأميركيّة التي أدت إلى مصادرة إرادة الشعب التشيلي، و«أحاديث المنفيين» عن تجربته في الشتات بين المنافي الأوروبية.
في نهاية السبعينيات، انخرط راوول رويز في السينما التأملية الرائجة آنذاك. لكنّه سلك توجها مغايراً للسائد، معتبراً أنّ «الصورة الصوتية» (الحوارات، واللهجات، ونبرات الصوت) لا تقلّ أهمية عن «الصورة البصرية». خالف بتوجهه ذلك «الموجة الجديدة» المنادية بإسقاط البنى السردية التقليدية، لإفساح المجال أمام خطاب بصري، رأت أنّه الأكثر عصرنة.
ثم أنجز فيلمه الأشهر «تيجان البحّار الثلاثة» (1983)، فكان له وقع القنبلة في الأوساط النقدية الأوروبية، إذ اعتبر بمثابة «ولادة جديدة للفن السريالي». في عمله هذا، استعاد رويز التوهج اللاتيني الذي طبع بداياته، منطلقاً من تهويمات «الواقعية السحرية»، لابتداع ما اصطلح على تسميته لاحقاً بـ«المتاهة السردية». وهذه بنية حكائية بوليفونية، تستند إلى أسلوب باروكي، تتداخل فيه أصوات وزوايا رؤية، متعدّدة ومتضادة. لكن الآمال الكبيرة المتولدة عن ذلك الفيلم تبخّرت بسرعة. لم يستثمرها رويز لتعميق انشغالاته وأبحاثه الفنية المجدّدة، بل انساق نحو فخ النجاح السهل من خلال المراهنة على الرواج الشعبي. من «مدينة القراصنة» (1983) إلى «السفينة الذهبية» (1990)، مروراً بـ«جزيرة الكنز» (1985)، دامت رحلة التيه تلك ما يقارب عقداً.
لكنّ المعلّم التشيلي لم يلبث أن انبعث كالعنقاء من رماده، واستعاد فجأة شهيّته إلى التجديد والتجريب. دشّن مرحلة خصبة من عطائه السينمائي، مع «العين الكاذبة» (1993). ثمّ جاء شريطه الشهير «ثلاث حيوات وموت واحد»، من بطولة الممثل الإيطالي الشهير مارتشيللو ماستروياني (1924 ـــ 1996). عرض الشريط في المسابقة الرسمية لـ«مهرجان كان» عام 1996، وسحر الكروازيت، معلناً عودة رويز إلى مصاف الكبار من دون أن ينال أي جائزة. واتّسمت المرحلة اللاحقة من مسيرته بتوجهين رئيسيين: أفلام مقتبسة من أعمال أدبية شهيرة من جيونو وبلزاك وبروست (راجع الإطار أدناه)، وسينما تأملية ذات منحى نفسي كما في «أنساب الجريمة» (1997) مع كاترين دونوف، و«كوميديا البراءة» (2000) مع إيزابيل أوبير.
قبل سبع سنوات، عاد راوول رويز إلى تشيلي، حيث صوّر فيلمين هما «يوم في البادية» (2004) و«المجال المفقود» (2005). هناك، في مرابع صباه في مدينة بويرتو مونت الجنوبيّة، صوّر عمله البيوغرافي الأخير، وكان عاكفاً على استكمال عمليّات التوليف حين دهمه الموت.