ليس الدخول إلى عالم السينمائي التشيلي راوول رويز سهلاً. عليك البحث والتدقيق والتأمل. لا فرق عنده بين فيلم سيئ وفيلم جيد. الصورة عنده عالم قائم بذاته. ما يفعله هو التركيز على ما تحويه الصورة من إمكانات التواصل، ما بين صانعها والمشاهد. يتعرض المشاهد للخداع بصفة مستمرة في تفاعله مع صور رويز. يخضع أيضاً لعدد من الحيل أثناء بحثه عن الحقيقة. قد يختلف تفسير الفيلم ما بين نظرة العدسة إلى العالم، والتفاعل ما بين واقع الصورة والمتلقي. بإمكانك فهم الصورة أو بإمكانها خداعك، حسب التفاعل مع المعاني المتعددة، ونسبية الحقيقة.في «فرضية اللوحة المسروقة» (1979)، يحاول مقتني تحف (جان روجول في ظهوره السينمائي الأخير)، من خلال حواره مع رجل غير مرئي، أن يجد حلاً للغز لوحة ناقصة من مجموعة تضمّ ستة أعمال، تحمل توقيع فنان متخيّل. تتجول الكاميرا هنا في القصر بين مشاهد محاكاة طبيعية لما تصوره اللوحات الستة، في محاولة للوصول إلى معنى اللوحات المترابط الخفي. وفيما يصرّ المقتني ــــ في استنتاجاته المتذاكية بعد سنوات طويلة من التفكير ــــ على وجود لوحة سابعة سُرقت، قد يفسر العثور عليها معنى اللوحات الحقيقي، ينفي الفنان غير المرئي ذلك الوجود.
يمكن اعتبار هذا الشريط الذي أطلق شهرة رويز، مدخلاً إلى عالمه السينمائي. تتجاوز اللعبة السينمائية هنا، وفي إطار البحث المهووس عن حل للغز الفني، مسألة البحث في معنى الفن ذاته. يذهب بنا السينمائي الراحل أبعد من ذلك، نحو طرق التلقي والفهم، وعملية البحث الناقصة دوماً عن الحقيقة، وهي أحد الهواجس التي عني بها في أفلامه وعلاقتها بالمتفرج.
رويز الذي ولد في تشيلي ودعم نظام سلفادور الليندي، وعمل مستشاراً سينمائياً في حكومته، اضطر إلى مغادرة البلاد إلى فرنسا بعد انقلاب بينوشيه. قبل ذلك، كان مهووساً بالمسرح وكتب ما يقرب مسرحيات طليعية، إلى أن أخرج فيلمه القصير الأول «الحالة» ولاحقاً الفيلم الروائي «ثلاثة نمور حزينة». في فرنسا، أكمَل مسيرته السينمائية بأفلام متنوّعة ما بين التجريبي والروائي والتسجيلي. أخرج «حوارات المنفيين» الذي حمل هماً اجتماعياً وسياسياً واضحاً لمهاجر جديد هارب من بطش الفاشية، وأفلام أخرى مثل «حوار كلب»، و«المهنة العالقة» وهو عمل روائي مقتبس من رواية بيار كلوسوفسكي، و«تقسيمات الطبيعة» و«أحداث عظيمة وأشخاص عاديين» قبل أن يفرض فيلمه «فرضية اللوحة المسروقة» اسمه في فرنسا.
سيرة رويز السينمائية مذهلة بالتأكيد. ترك 117 فيلماً في مسيرته التي امتدت 48 عاماً، منها ما يقرب من خمسين فيلماً في عشرين عاماً. لم يتوقّف لحظة، بل عمل بنحو متواصل. في تنوع أسلوبه السينمائي ما يميزه أيضاً، اهتمام بالقضايا الاجتماعية والإنسانية، كما في أفلام مثل «الحياة حلم» رائعة كالديرون التي أنجزها كمسرحية في فرنسا، قبل أن ينقلها لاحقاً إلى الشاشة. وبرز اهتمامه أيضاً بالأدب الذي اقتبس منه «المستعمرة التأديبيّة» عن قصة لكافكا و«ريتشارد الثالث» عن شكسبير. لكن يبقى أسلوبه هو ما ميز أعماله المتنوعة الاتجاهات، سواء في السينما أو التلفزيون، مع ممثلين مشاهير أو مغمورين: حبكات متلاعبة بالمشاهد، وفتنة العودة إلى أزمنة ماضية، واهتمام دائم باستكشاف إمكانات السرد السينمائي في تناول الموضوع.
في فيلمه الأخير «أسرار لشبونة» الذي عرض أولاً كسلسلة تلفزيونية قصيرة، يجمع كل ذلك في رحلة غريبة تدور أحداثها في القرن التاسع عشر، عن عدة شخصيات مترابطة في رحلتها العابرة للقارات والأجيال. قبل وفاته، كان رويز يضع اللمسات الأخيرة على فيلم «الليل القادم» الذي صوره في بلده تشيلي حيث سيدفن، تنفيذاً لوصيته. رحل مايسترو السرد إذاً، وخلّف وراءه ثروة سينمائية هائلة، وروحاً فنية لم تتعب حتى النهاية.