تنوعت مشاهدات الرحالة المغاربة إلى الأندلس، بين الانتقاد والرفض، والانجذاب بمظاهر الحداثة. واختلفت نظرتهم إلى «الأندلس المفقود» باختلاف فهمهم للأنا الفردية والجماعية، والسياق التاريخي. كتاب «إسبانيا بعيون الرحالين المغاربة»، الصادر عن «مختبر السرديات في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك» في الدار البيضاء، رصد هذه التناقضات التي توزعت بين ثنايا نصوص الرحالة المغاربة. كلّ مغربي يزور إسبانيا سيراها بنظّاراته الخاصة: أندلس مفقود، نقطة عبور إلى «الجنة» الأوروبية، أرض «معادية» مفترضة، ومحتل سابق للمغرب... لكن كيف تشكلت نظرة المغاربة إلى هذه الأرض التي تربطهم بها علاقة إشكالية؟ يحاول الكتاب الإجابة عن هذا السؤال، راصداً متن الرحلات المغاربية لإسبانيا، عبر زوايا مختلفة. العمل تأليف جماعي شارك فيه أكاديميون وباحثون هم وفاء العجوري، وسليمان القريشي، وشعيب حليفي، وعبد الهادي التازي، ومحمد رزوق، وعبد المنعم بونو، ومحمد معروف الدفالي، وعبد الرحيم المودن، وبوشعيب الساوري، ووليد السليماني.
يدرس الباحثون المتن تارة، وطبيعة الرحلة طوراً، وأبعادها التاريخية والسياسية والثقافية. ليتشكّل حوار بين الأنا ـــــ الآن الذي يقدّمه الباحثون المغاربة بمرجعياتهم الثقافية الحالية، والأنا ـــــ أمس للرحالة. لعبة المرايا الذاتية والجماعية، هي بالضرورة شكل من أشكال رصد تطور الوعي «المغربي» بالجارة الشمالية التي مثّلت جزءاً حاسماً من الذاكرة الجماعية المغربية والعربية.
ينطلق الكتاب من مسلمة أنّ «الرحلة قد حقّقت دوراً مهماً ولافتاً في تأسيس ثقافة حوارية عبر جنس تعبيري، متشكّل من إرث متعدِّد المصادر والمرجعيات». ثمّ يحفر في متون الرحلات باختلاف مراحلها التاريخية، ومنها رحلات شهيرة كرحلة ابن بطوطة، ولسان الدين بن الخطيب، وابن خلدون، وأخرى معروفة، مجهولة من القارئ العادي، كالرحلات السفارية للكردودي والغساني.
الباحثون شعيب حليفي، وعبد الرحيم المودن وبوشعيب الساوري يقرأون المتن، انطلاقاً من بنيته النصية. هكذا يبحث حليفي في «أدبية الرحلة عند ابن الخطيب» الأندلسي. ويخلص إلى أنّ متن ابن الخطيب يشي «بالمرجعية الجمالية والمتفردة للمؤلف/ الرحالة الذي أسس لعنوان يحيل على شكل المذكرات الشخصية والتاريخ والجغرافية الوصفية». متن استطاع، يقول حليفي، أن يؤسس «نصاً رحلياً جديداً».
من جانبه، يدرس المودن «صور الحوار وحوار الصور» في متن الرحلة السفارية، لعلي بن سالم الورداني. الدراسة توضح موقف المثقف العربي ـــــ الإسلامي في علاقته بهذه «الإسبانيا» الهجينة التي قامت على أمجاد الأندلس المفقود. ففهم علي بن سالم الورداني مثلاً لقوة موقع محصن بالغرب، لن يأتي إلا عبر إجراء مقارنة بينه وبين تحصينات الدردنيل العثمانية وقوّتها. تشير دراسات الباحثين لمتن نصوص الرحلات إلى موقفهم من الحداثة التقنية، وصدمتهم تجاهها. ويشير معروف الدفالي في دراسته لرحلة الكردودي، إلى اهتمامه بمظاهر الحداثة التقنية، وأنماط الحياة في إسبانيا. الكردودي كان أمين سر رحلة سفارية إلى بلاط الملك ألفونسو الثالث عشر عام 1885، وكان ضمن نخبة أعجبت بمظاهر الحداثة الغربية.
من جهته، لا يتردّد عبد الهادي التازي في إطلاق صرخة مفادها أن «ابن بطوطة لا يزال في حاجة إلينا». فابن بطوطة بنصه الرحلي، يمثّل مصدراً أساسياً في التاريخ المغربي. ابن بطوطة، وابن الخطيب، وابن خلدون، كانت لهم نظرتهم الخاصة للأندلس. يرصدها الباحث سليمان القريشي في دراسة عن «صورة الأندلس/ إسبانيا» في الرحلات الثلاث. يخلص القريشي إلى أنّ رحلة ابن بطوطة صورت مجتمعاً أندلسياً «مهزوماً أعياه الصراخ والاستنجاد». وهو نفسه موقف ابن خلدون، الذي لا ترتبط في رحلته إلى الأندلس إلا بـ«الاضطراب السياسي والقلقلة الاجتماعية المصحوبة بالرحلة والجلاء».