يبتعد محمد بركات في كتابه «شهوة جدتي» (دار الآداب) عن المعالجات المألوفة لمخاضات مجتمعاتنا، التي صرنا نقرأها بكثافة في المدونة السردية العربية الحديثة. لا نلحظ عند هذا الشاعر والصحافي اللبناني قدرة على التقاط الحدث وتدوينه بدقة فحسب، بل على الدخول إلى كواليس هذا الحدث، والتسلل إلى تفاصيله البسيطة بسلاسة ومرونة.الكاتب يفتعل في نصه الحيادية، ويتجنَّب الأحكام المطلقة، ليسرد بحرية وهدوء ما لاحظه وعايشه من تفاصيل حياتية وتناقضات اجتماعية. كاميرا محمد بركات تتسلَّل بعين فضولية إلى داخل العلاقات العاطفية والإنسانية، لتعاين عبر مشاهدات سردية، المتاهات التي تُدخِل هذه العلاقات في دهاليزها، والمصائر المجهولة التي تذهب إليها في سياقات المجتمع اللبناني وتعقيداته الكثيرة.
يقدِّم بركات عبر خمسة نصوص روائية تختلف في تقطيعها الفني، تجارب واقعية، تبيِّن جزءاً من حركة الاجتماع اللبناني، ودورة حياته الروتينية. يتناول في «شهوة جدّتي» شخصيات تعيش تعقيداتها وتمارس تناقضاتها في مجتمع يعرف جيداً كيف يصهر الاختلالات الاجتماعية داخل نسيجه، ويحوّلها إلى ممارسات اعتيادية.
الشاب الذي تفتر علاقته العاطفية مع خطيبته في نصّ «طلاقات معلّقة»، يتعرَّف إلى صديقتها، ليجد أنها تعاني من الأزمة ذاتها مع خطيبها، وليلاحظ مدى التشابه بينها وبين خطيبته من حيث الاهتمامات والسلوكيات وأسلوب التفكير. يكتشف لاحقاً أن خيانته كانت مرهماً لعلاج العلاقات المعطوبة، فيعاود الاتصال بخطيبته، مستسلماً لروتين علاقتهما السابقة. أمّا هدى الفتاة التي تنتمي إلى بيئة دينية محافظة في نصّ «ثياب بيروتية»، فتتزوج بطريقة تقليدية وتسافر مع زوجها بعد أن ترتدي الحجاب. تربطها صداقة متينة بفاطمة الباحثة عن الملذات في السهر والنزهات واللباس المتفلت من الرقابة الدينية. تلتقي الشابتان مرة كل عام، وتتسلل كل واحدة منهما إلى عوالم الأخرى بشهيّة وفضول.
يستخدم صاحب «المدينة لا تتسع لرجل جديد» لغة متقشِّفة ودقيقة في سرده، تتجنب المفردات البلاغية، والتوصيفات المضجرة. هذا ما يتناسب مع تقنية معالجته لمواضيع الكتاب التي امتازت بالخفة والبساطة والعفوية. لا يعني ذلك أنّ السرد انزلق إلى السطحية. العمق عند محمد بركات يتسرب إلى ثنايا النص، من دون أن يلحظه القارئ، وبشكل فج ومباشر. وهذا يبدو واضحاً في نص «شهوة جدتي وإثمها» الذي أعطى عنوانه للكتاب. يستعيد محمد بركات هنا ذاكرة جدّته، وخيانات جدّه المتكررة لها، في ظلّ أسئلة الشهوة التي تضرب العجائز... بعد فوات الأوان.