في الصورة ولدٌ مَنْسيٌ يستريح على درج. إلى جانبه ورود عجز عن بيعها مع تقدّم المساء. هناك أيضاً «عروس» مدينة الملاهي العملاقة، شاخصة إلى السماء في رجاءٍ مبهم المعنى. في صورة أخرى، عاملٌ في مشغل خياطة حياته رهنٌ بخرم إبرة. أما المتشرد فنرى صورته نائماً تحت أحد الجسور. كل هذه الصور بالأسود والأبيض نراها في معرض «ليل بيروت». ليس ذاك الليل الصاخب المجنون، بل ليل المهمّشين الذين تتناساهم المدينة خلال النهار، وتتجاهل وجودهم، إذ يهدد حالة النكران التي تعيشها. تلك هي الفكرة المحورية التي تدور حولها صور الإيطالي الشاب جوليو ريموندي (1984) الذي يعرض حالياً في غاليري «نائلة كتانة كونيغ».
المصوّر الآتي من خلفية صحافية، مسكون بلوثة الأدب أيضاً. متخرّج تاريخ الفن والأدب، اختار منذ البداية أن يكون «فناناً وثائقياً»، يجوب العالم ويتلمّس أسراره من خلال عدسة الكاميرا. بيروت سحرته حين زارها عام 2007. ومثلها كان تأثير الجزائر العاصمة.
كان الأدب مدخلاً إلى المدينتين: قصص الكاتب اللبناني سليم نصيب (سهرة عادية في بيروت)، ونصوص محمود درويش والياس خوري، كانت مدخل ريموندي إلى المدينة، ومفتاح علاقته بها، ثم بالسينمائي والشاعر كريستيان غازي. العلاقة الأخيرة أفضت إلى المعرض الحالي، وأثمرت كتاباً مشتركاً يحمل صور جوليو وشعر غازي بعنوان «ليل بيروت» (دار «شارتا»).
أما الجزائر، فهل هناك من بوابة لدخولها أفضل من كلمات ألبير كامو؟ انطلاقاً من نص «الصيف»، يلتقط جوليو «الجزائر البيضاء» في صور ينشرها قريباً في كتاب «الساعات البيضاء».
بين ليل بيروت الأسود، وساعات الجزائر البيضاء، يرصد المصوّر مظاهر العزلة في مدينتين «تحملان مظاهر الثقافتين، الشرقية والغربية» كما يقول. لا فذلكة في التقاط الصور. «أستخدم كاميرا وعدسة واحدة فقط، لأن الصورة ضوء وإحساس وليست تكلفاً تقنياً».
ببساطة، يغوص المصوّر في ليل بيروت، بحثاً عن روحٍ يطردها الصباح، وعن فروقات بين المناطق تندثر مع سقوط الظلام. في الليل، يتلمّس الذاكرة التي يحاول اللبنانيون طمسها في صخب النهار. «اللبنانيون لا يريدون تذكّر السنوات الثلاثين الأخيرة، لكنني أراها حاضرة في ليلهم القلق والمتوجّس»، يقول ريموندي. «هنا، للالتواءة تبريرها، يقول حاضرٌ، ينساب يائساً»، حسب كلمات كريستيان غازي التي ترافق الصورة. أمام تلك «الأرض الخراب»، يجزم السينمائي والشاعر الملعون بأن «تلك الوحدة هي الحقيقة الأخيرة في عالم يتفتت».



«ليل بيروت»: حتى 12 الحالي ــــ «نائلة كتانة كونيغ» (جفينور) ـ 01/738706