مساء اليوم، تختتم «مهرجانات بيت الدين» موسمها بالموسيقى التراثية العراقية مع فريدة و«فرقة المقام العراقي»، التي تواصل تراثاً عريقاً تألّق على يد معلّمين سبقوها. لا تتمتع فريدة محمّد علي بإمكانات صوتية استثنائية، لكنّها تتميّز بحنجرة مطواعة، وإحساس فريد، وبنبرتها الخاصة، وثبات صوتها (بين الرنّان والرخيم) ودفئه ونقاوته. صوتٌ حنينيّ عذب منسلّ من حضارة بلاد ما بين النهرين، يوغل في الطرب بشيء من الأسلبة، والكثير من الخفّة.
«سيّدة المقام العراقي» لا تستنزف طاقات حنجرتها، وتتجنّب اللجوء إلى التقنيّات العالية (الزخارف، والتطريب الزائد)، كأنّها تتعمّد صون موهبتها الفطرية وصوتها «الخام»، بعيداً عن كلّ ما يُعدّ حديثاً وحداثياً في الغناء العربي المعاصر (المزاوجة بين تقنية «صوت الرأس»، وصوت الصدر، والصوت الحنجريّ...).
بهذا المعنى، فريدة مطربة «اتّباعية» حتّى العظم، تجنح نحو التلقائية، إن لجهة الأداء الصوتي أو (نمط) الغناء. هكذا، بهذه البساطة، نكتشف سحرها وخصوصيّتها في التعبير. أصدرت عشر أسطوانات تعاونت فيها مع «فرقة المقام العراقي»، أبرزها: «إشراقات»، و«تراث»، و«صوت الرافدين»، و«العراق... مقامات وأغاني الحنين»، و«شمس العراق». إنّها من نساء المقام العراقي النادرات في هذا العصر.


المقام العراقي هو بمثابة تحدٍّ غنائي وموسيقي، وتجلٍّ في الطرب، ومخزون فنّي وثقافي وجمالي، ومساحة لتوسيع حدود تعبيرات المغنّي الصوتية. ولعلّ أهمّ ما يميّز المقام والموسيقى العراقيين اشتمالهما على مقامات قليلاً ما يُستعان بها في الموسيقى العربية (مقام اللامي، مثلاً)، وكثرة المقامات الفرعية: البنجكاه، والابراهيمي، والجبوري، والمحمودي، والأوج، والحكيمي، الهمايون، وحجاز غريب، وحجاز شيطاني...
«القارئ» (مؤدّي المقام أو المنشد) الذي يغنّي عادةً قصائد بالفصحى والعامية (تُسمّى «زهيري» أو موّالاً)، أصبح مخيّراً بين الأسلوب التقليدي في الشدو، والتجارب الحديثة الخارجة نسبياً على المدرسة «الكلاسيكية»، وقد عدّها بعضهم «اتّجاهاً تجديدياً» في المقام العراقي. أمّا «الاتّجاه الشعبي»، فيجمع بين الغناء الشعبي (الريفي) وقواعد المقام العراقي. تمثّل تأدية المقام العراقي اليوم استعادة لجروح الهوية، واشتغالاً على الذاكرة (ولو على نحو غير مباشر)، وإضاءة على موروث موسيقي وغنائي تقليدي وشعبي زاخر ومهدّد في ظلّ تصاعد موجة الفنّ التجاري، وازدياد تأثيرات العولمة، إضافة إلى تداعيات الاحتلال الأميركي التي تهدّد حضارة العراق ووحدته وطناً وشعباً.
هذا النوع من الغناء بات يمثّل إذاً شكلاً من أشكال النضال، ما يُحسب لفريدة محمّد علي (1963) و«فرقة المقام العراقي»، وغيرهما من المطربين والمجموعات، التي تعيد إحياء التراث العراقي، إن على نحو تقليدي، أو بأسلوب يجمع بين الشعبي والحداثي والمقامي، ويتيح إعادة قولبة الموروث الغنائي والموسيقي، وتطويره. «فرقة المقام العراقي» المؤلّفة من الجوزة (محمّد كمر)، والسنطور، والإيقاعات الشرقية، ذات مستوى جيّد، وهو ما يتبدّى في المرافقة الموسيقية، والفقرات المرتجلة والمدوّنة، وتقنيّات العزف.


ولعلّ أكثر ما يلفت في هذه الفرقة هو التناغم بين الإيقاع والميلوديا من جهة، وأداء فريدة والعازفين من جهة أخرى. إنّ حفاظ الفرقة على الأصالة يوفّر لتجربتها صلة دائمة بالتراث، لكن من دون أن يكبّلها، إذ إنّ اشتغالها على التراث يعكس رؤية ناضجة تتجنّب التعقيدات الأسلوبية والتقوقع. الفرقة التي تأسّست عام 1989، تمثّل استكمالاً لـ «فرقة التراث الموسيقي العراقي» التي أسّسها عازف العود (الشهير) الراحل منير بشير عام 1973. «تطوّر المقام العراقي عبر العصور، متأثّراً بثلاث حضارات هي العربية والفارسية والتركية» وفق الباحثة شهرزاد حسن.
هذا ما ينطبق على الموسيقى العربية. يجد المستمع تأثير الموسيقى التركية في القوالب الآلاتية العربية (السماعي، والبشرف، واللونغا)، فيما يظهر تأثير الموسيقى الفارسية في بعض الآلات والمقامات. السنطور الذي يؤدّي دوراً أساسياً في «الجالغي البغدادي»، يسهم في ضبط الإيقاع وتلوينه وإغنائه. أمّا دور الجوزة (آلة تراثية عراقية فارسية الأصل بحسب بعض المؤرّخين)، فلا يقتصر على المرافقة الموسيقية البسيطة. إذ تسهم أحياناً ـــــ إلى جانب السنطور ـــــ في تحديد اتّجاه الارتجال، ووصلات العزف والغناء، وتعطي المقام العراقي طابعاً وجدانياً. الأمسية ستكون تاريخية لمحبّي هذا النمط الذي يفيض حساسية وشجناً وجذالة.

فريدة و«فرقة المقام العراقي»: 8:30 من مساء اليوم ـــــ «مهرجانات بيت الدين» ـــــ للاستعلام: 01/999666



تقليد عريق

يختلف المقام العراقي، باعتباره مفهوماً و«منهجاً»، عن «المقام» بوصفه سلّماً موسيقياً (بالمعنى العملي للكلمة). الأوّل هو تقليد عريق في الموسيقى والغناء العراقيين، يرتكز على قواعد متوارثة (في بغداد، والموصل، وكركوك، وكربلاء، والبصرة...). يشتغل مؤدّو هذا المقام على التلوين النغمي، والضبْط والتنوّع الإيقاعي. يدرجه بعضهم في خانة الموسيقى الصوفية بسبب أصوله، ملقّبين مؤدّي المقام بالـ«قارئ» (منشد). عملياً، يتفوّق الدنيوي على الروحاني في هذا الفنّ. يقوم المقام العراقي على «التحرير» (استهلال)، و«القطع والأوصال» (انتقال من نغمة إلى أخرى، مما يتيح للمؤدّي استثمار قدراته إن على المستوى التقني، أو على صعيد التطريب)، و«الجلسة» (النزول إلى «القرار» استعداداً لبلوغ «الجواب» والطبقات العالية)، و«الميانات» (الجوابات)، و«التسليم».