حمل الشاعر دفاتره وأوجاعه، وأبحر إلى أرض الإغريق حيث ولدت التراجيديا، وولد الشعر. على هامش مشاركته في مهرجان شعري، في «جزيرة تينوس الإغريقيّة العائمة أبداً في بحر إيجة»، دوّن العراقي التائه ملاحظاته وانطباعاته، في ومضات نقتطف هنا بعضها:في هذا اليوم، السابع والعشرين من تمّوز (يوليو) في العام الحادي عشر بعد الألفَين، في هذا اليوم، ومنذ الرابعة فجراً آن استيقظتُ، أُغِذُّ المسعى إلى جزيرة تينوس الإغريقيّة العائمة أبداً في بحر إيجة.
دعاني إلى مهرجان شعريّ هناك أناس أغارقة لا أعرفهم. سألوني أن أرسل لهم نصوصاً عينوها هم، من بينها: «أميركا، أميركا...» و«ليل الحمرا». قالوا إنهم سينقلون النصوص إلى لسانهم المبين، وإني سأقرأ القصائد بلغتها الأصلِ: العربية. قلتُ في نفسي: لقد أحسنوا الاختيار. القوم، إذاً، أخيار! تذاكر السفر أُرسِلتْ مبكّرة.
تسلّمت إشعاراً بها، وأنا في طنجة. الآن، أنا في مطار هيثرو، القاعة الأولى، التي لم أنطلِق منها منذ حينٍ. الشركة الناقلة: طيَران إيجة. لم يبق إلا إيكاروس!
■ ■ ■
الساعة الآن، في المطار، العاشرة والدقيقة الأربعون. بوابة المغادرة تفتح في الحادية عشرة وعشر دقائق.
كأس بيرة إيرلندية سوداء. شرائح بطاطا مقليّة طازجة. نسوةُ الخلج يأتين مجلببات بالسواد. لا أدري لماذا فرض على الخليجيّات السواد. الرجال هناك بالأبيض. النساء بالأسود. الرجعية صارخة حد اللعنة! لمَ لا تنقلب الأمور؟ الخليجيّون يرتدون الأسود. والخليجيات يرتدين الأبيض... في غير ليلة الزفاف. سيكون العالم أجمل! الخليجيات رائعات. والخليجيّون مرَوّعون !
■ ■ ■
بِتّ، البارحة، في فندق آفرا بمنطقة رافينا (منطقة الميناء) وكان للاختيار سبب وجيه جدّاً، إذ بمقدورك أن ترى، من شرفة الغرفة، السفينة التي ستأخذك إلى الجزيرة. هذا الصباح، استيقظت مبكراً أيضاً، في حوالى الرابعة والدقيقة الثلاثين. أنا اكتب الآن، وفي المرآة تنعكس أضواء المرفأ الإغريقي. هلال رهيف في السماء الصافية. هلال افتقدته طويلاً في لندن الغائمة. مساء أمس، كنت جائعاً. (...) طلبت، مستخدماً بضعَ كلمات يونانيّة من بقايا الذاكرة القبرصية، ومفردات إنكليزية، هامبرغر دجاج، والأهمّ من الدجاج كان النبيذ الذي جاءني في دورق يسع نصف ليترٍ. سألت النادل عن أصل هذا النبيذ الأحمر الخفيف ذي الحلاوة المستسرة، قال: من أتيكا. اليونان تنهمر من جديد!
■ ■ ■
قد تكون السماءُ صافيةً
غير أني أنوءُ بالسُّحُبِ...
■ ■ ■
الساعة الآن، تقترب من السادسة. في البُعد أرى الأفق ورديّاً. عليّ أن أرتِّب حقيبتي، وأطبق النوتبوك... الصباح ينجلي!
■ ■ ■
بلغْنا الجزيرة حوالى التاسعة والنصف مساءً. Tinos Beach هو فندقُنا. بحر إيجة رائق أزرق وهادئ.
والسابحون كثر، لكن الشواطئ غير مزدحمة. اليونانيون يتصرفون على طبيعتهم. ثمّة حكمة بسيطة، ورضى نفس، وابتهاج بالحياة. ما أبعدهم عن وجوم الإنجليز، وتحفّظهم المنافق! (...) ظهيرة هذا اليوم، شعرت بالجوع. (...) سرت بمحاذاة الشاطئ والمطاعم المهتمّة بالسائحين. أخيراً وصلت إلى مقهى ليس فيه أحد. قلت: هذا مكاني! سيدة وابنتها تديران المكان: ماريكا ويُوانا. طلبت جبن غريّير وجبناً آخر محليّاً . طلبت زجاجة نصف لتنر الرتسينا، النبيذ الإغريقي الأبيض الخفيف. طلبت خبزاً. كان أشهى طعام لي منذ زمن.
■ ■ ■
جاء مَن يخبرُني أننا سنجتمع للتداول في شؤوننا. كنتُ استمتع بكأس أوزو مثلّج. قلتُ: لا بأس! الاجتماعُ على الخير خيرٌ من كاس أوزو حتى لو كان مثلّجاً. وقد انعقد الشمل. وتوضّحت أمور. والآن نحن في مقر المؤسسة الثقافية للجزيرة. بيانو، ونساء جميلات قلّ أن يراهنّ المرء في بلاد الإغريق، وبخاصة المغاليات في الشقرة أو التشقير. الموسيقى العذبة من البيانو تخفت. نحن سنسمع شعراً!
■ ■ ■
يبدو أننا لن نسمع شعراً الآن. كلمةٌ طويلة من رجل متحمس لأن تكون هذه الجزيرة عاصمة ثقافيّة لبحر إيجة. ثم جاء القسّيس اليوناني التقليدي، ذو الثياب السود والشعر الأسود. الشّعر لم يبدأ بعد. على الشعر أن ينتظر نهاية المكتبيين. بدأ الشعر على التاسعة والنصف. ثلاثة شعراء وشاعرة واحدة. شاعران يونانيّان وشاعر من كرواتيا كنت تحدثت إليه قبل الأمسية. الشاعرة أظنها إغريقيّة. لم تكن شاعرة. كانت قاصّةً. ألقتْ بياناً سياسيّاً من مقدمة آخر روايةٍ لها. الشاعر الأول سبعيني عُمراً. إلقاؤه ممتاز. قصيدته الأولى كانت عن ماش على الحبل. الكرواتي الفتي كان ناجحاً في استمالة الحضور، بقصائده العاطفيّة القصيرة.
وكان هناك شاعر أميركي كثيف اللحية ألقى قصائد جيدة تهتم بالطبيعة. القصائد ألقِيَتْ باللغة الإنجليزية.
■ ■ ■
في الظُّهرِ أذهب إلى مقهى ـــ مطعم لا يرتاده السائحون. فعلت هذا اليوم أيضاً. طلبت معكرونة نابوليتان وزجاجة نبيذ رتسينا الأبيض الخفيف. رأيت الشاعر الإيراني فريدون يغذّ خطاه. الشمس ساخنة. والوقت ظهر. ناديته من مكاني: فريدون، تعال هنا! إلى أين أنت ذاهب تحت شمس الهاجرة؟ قال: إلى معبد بوسيدون (إله البحر الإغريقيّ). قلت له: نتغدّى، ثم نذهب. دعوته إلى ما طلبت. طلبنا زجاجة ثانية. قلت له: فريدون... ننتهي من الزجاجةِ الثانية لنجد أن بوسيدون جاء إلينا، بدلاً من أن نذهب إليه!
■ ■ ■
هذا المساء ستكون القراءة في قرية فولاكس أعلى الجبل. للمرة الأولى ألتقي جورج بلاناس مترجِمي إلى اليونانية. رجل رائع. زوجته لطيفةٌ جداً. لهما بنت وولد. متزوجان منذ أربعة عشر عاماً. قرأت «ليل الحمرا»، جورج بلاناس قرأ «أميركا أميركا» كاملة. قرأتُ أيضاً قصيدة كافافي الشهيرة «إيثاكا» باللغة العربية، ومن ترجمتي. صفق الحضور طويلاً حين أريتهم كتاب كافافي «وداعاً للإسكندريّة التي تفقدُها». قلت لهم: إنها الطبعة الخامسة. اليونانيون يقدِّسون شعراءهم. وهم محقّون تماماً: شعراء اليونان من أفضل شعراء العالم.
■ ■ ■
في المطعم، بعد الأمسية التي بدأت متأخرة على طريقة القوم هنا، سهرنا حتى مطلع الفجر!
فولاكس، قريةٌ شيّدها الخيال.