القاهرة | «جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية وما تمنحه من مقابل مادي مقرر من أموال الشعب (...). وبالتالي، من حق هذا الشعب ألا تهدر أمواله على من لا يستحقها بدلاً من انتفاعه بها في صورة خدمات عامة، وما إلى ذلك من أوجه مشروعة، بعيدة كل البعد عن المارقين عن أحكام الله وتعاليمه». ليست الكلمات السابقة جزءاً من بيان لجماعة الإخوان في مصر تستنكر فيه منح جائزة لـ«مارق عن أحكام الله وتعاليمه».
إنّها جزء من حيثيات قرار أصدرته أول من أمس «هيئة مفوضي مجلس الدولة في مصر» (هيئة قضائية رفيعة)، طالبت فيه بسحب الجائزة من الكاتب والباحث سيد القمني (1947) الذي حصل عليها عام 2009، ما أثار يومذاك غضب معظم التيارات الإسلامية في مصر.
ليست الفقرة جزءاً من بيان لجماعة دينية. من المهم التذكير بذلك قبل قراءة الفقرة التالية من التقرير القضائي نفسه: «قرار منح القمني هذه الجائزة (...) جاء مجاملة لتوجّه إلحادي كانت تستخدمه الدولة لمحاربة التيار الإسلامي». هل نتحدث هنا عن محاكم تفتيش؟ الفقرة التالية لا تدع مجالاً للشك «ليس من شأن هذه الهرطقات أن تكون إضافة للعلوم الاجتماعية التي هي جزء ومكون أساسي يبنى عليه منح الجائزة التقديرية». هرطقات؟ كلمة كنّا نظن أنها انتهت مع العصر الذي كان المفكرون فيه يحرقون بوصفهم سحرة.
في الواقع، ليس الأمر صدمة لجهة استخدام جهة قضائية لغةً مماثلة. يجب ألّا ننسى أنّ محكمة النقض ــــ الأعلى مرتبةً ــــ فرقت بين الراحل نصر حامد أبو زيد وزوجته ابتهال يونس قبل 16عاماً. بينما يقتضي الإنصاف تذكّر عشرات الأحكام التي انتصر فيها القضاء المصري لحرية الإبداع والتفكير.
إلا أن المشكلة تبقى في قوانين الحسبة التي تمثّل سيفاً مصلتاً على حرية التفكير. بعد قضية نصر أبو زيد، لم تلغ الدولة قانون الحسبة، بل حصرت استخدامه في يد النائب العام. قضية القمني تختلف، فهي ليست دعوى تفصل في عقيدته، بل في استحقاقه جائزة الدولة التقديرية. ثم يمكن مواطناً عادياً أن يرفع الدعوى. من هنا، تقدم المحامي والقيادي السابق في جماعة الإخوان المسلمين ثروت الخرباوي، ورفع دعوى طالب فيها بسحب الجائزة من صاحب «الحزب الهاشمي» بحجة إساءته إلى القرآن والسنة النبوية. ما أكده قرار مفوضي الدولة، مستنداً إلى تقرير مجمع البحوث الإسلامية، ليقضي بأنّ «إبداعات الكاتب الفكرية خالفت القرآن الكريم والسنّة النبوية المطهرة، وشكّكت في نسب بعض الأنبياء، وطالت بالازدراء بعضهم الآخر، وتطاولت بالألفاظ على الذات الإلهية».
اتهامات هائلة، لا تختلف كثيراً عما قرره تنظيم «قاعدة الجهاد» في بلاد الرافدين. جماعة الجهاد نسب إليها تهديد نُشر على الإنترنت عام 2005، خاطبت فيه صاحب «حروب دولة الرسول» بالقول إنّ «خمسة من أخوة التوحيد وأسود الجهاد قد انتدبوا لقتلك». أنكرت الجماعة علاقتها بالتهديد، ولم تنفذ «القاعدة» تهديدها. أما القمني، فنشر بعد ذلك رسالة «اعتزال»، أعلن فيها تراجعه عن أفكاره، ونيته التوقف عن الكتابة والبحث! لم يصمد القمني طويلاً، وعاد إلى الكتابة وشاشات التلفزيون، مواصلاً مشروعه نحو قراءة مادية للتاريخ الإسلامي.
عكس أبو زيد، كان الخلاف كبيراً حول قيمة المنتج الفكري للقمني. رأى بعضهم في صاحب «النبي إبراهيم والتاريخ المجهول» كاتباً انتقائياً في تناوله للتراث، ما أضرّ بصورته باحثاً. المؤكد أن كتبه أكثر خفة من أفكار أبو زيد، وأكثر بساطة من لغة خليل عبد الكريم، ما حقق له مبيعات أكثر، واعترافاً أضعف. من تلك الزاوية يمكن نقاش القمني... لكن الجماعات الدينية لا تعرف سوى زاوية وحيدة، فالتكفير أقل تعقيداً وأعلى دوياً. ما زال قرار هيئة مفوضي الدولة يحتاج إلى حكم قضائي نهائي يقضي بسحب الجائزة التي «تدفع من أموال الشعب»، وهو شعب دفع من أمواله الكثير لرموز من النظام السابق حصدوا جوائز الدولة من دون أن يمتلكوا أي ميزة سوى وجودهم في السلطة... لكن ذلك لم يلفت انتباه الإسلامويين.



المعتزليّ... والتكفير

اشتغل سيد القمني على مرحلة ما قبل الإسلام في الجزيرة العربية، وصولاً إلى تأسيس الدولة الإسلامية، والاقتصاد والعادات والصراعات السياسية والقبلية قبل الدينية. تناول فجر الرسالة المحمدية بأدوات حذف منها ما رآه أساطير أو رموزاً. المسألة الرمزية في تفسير النص القرآني وتحقيق الحدث الإسلامي جعلاه يصف نفسه بالمعتزليّ، ما دفع الإسلاميين إلى تكفيره.