في «مفهوم الحرية في التاريخ» (دار الفارابي)، يؤرخ الباحث اللبناني راتب الحوراني لتجارب الديموقراطية عبر التاريخ، ويختار نماذج عدة تبدأ بسومر في بلاد ما بين النهرين باعتبارها السبّاقة إلى هذا النموذج، قبل أن تتجه أنظار المؤرخين إلى أثينا، الأنموذج الديموقراطي الثاني. ثمة تساؤلات مختلفة يمكن طرحها على صاحب «حوارات في التداخل الديني السياسي». مع العلم بأنّ عنوان الديموقراطية عبر التاريخ، قد يناسب الكتاب أكثر، لأن المؤلف عالج إرهاصات الديموقراطية، بدءاً من الحضارة السومرية، وصولاً إلى الثورة الروسية.يستهلّ الحوراني تعقّبه لتبلور الديموقراطية من سومر التي بدأ التاريخ السياسي عبرها، ويعزز فرضيته بالاعتماد على الدراسات السابقة التي رأت في سومر أول أنموذج ديموقراطي في العالم القديم. وطبعاً، مفهوم الديموقراطية في تلك الأزمنة يختلف عن السياقات المعاصرة؛ فقد خضع لتحولات أملتها الشروط التاريخية وتجارب الشعوب. وعلى قاعدة الاختراق التراكمي للسلطة الأحادية، خاضت الجماعات البدائية ــ أي جماعات ما قبل التاريخ المكتوب ــ تجاربها في التأسيس لأنظمة الحكم التي مثلت الإجابة الأولى لتوسع الملكية بمدلولها المادي والمعنوي. هناك معطى أساسي تحكّم بتطور الديموقراطيات في العالم القديم والحديث: إنّه دور البورجوازية أو طبقة التجّار في صناعة الحدث الديموقراطي، وهذا المعطى يلحظه القارئ منذ الفصل الأول. ورغم سيطرة المنهج التاريخي على مفاصل الكتاب، وعدم معالجة الحوراني لسوسيولوجية الأفكار التي أنتجت التمثّلات الأولية للديموقراطية، إلا أن ذلك لا يمنع الخروج بمجموعة من الخلاصات المهمّة، في طليعتها أنّ بناء المدن وتوسع العمران أدّيا إلى تطور فكرة الديموقراطية على المستوى السياسي.
النماذج الثمانية التي اختارها الكاتب تتوزع بين سومر، وأثينا، وروما، والحضارة الإسلامية، والثورة الفرنسية والتجربة الديموقراطية في بريطانيا والولايات المتحدة، وأخيراً الثورة الماركسية... أي أنه يرصد تاريخ الديموقراطيات وفقاً لسياقها الزمني، إلى أن يصل إلى ثورة البلاشفة عام 1917. لكن المفارقة أن الكاتب تطرق إلى تجارب ديموقراطية معاصرة من دون أن يلتفت إلى التجارب العربية. ورغم أنه دوّن للحركات السياسية الاعتراضية في الخلافات المتعاقبة على ديار الإسلام، لكنه لم يستكمل مشروعه في تتبع الثورات التي شهدها العالم العربي عشية الاستعمار وبعده، ونقصد الثورة العربية الكبرى عام 1916، وثورة المليون ونصف المليون شهيد في الجزائر. وبصرف النظر عن العوامل المسببة للثورات العربية، لا شك في أنّها كانت تبحث هي الأخرى عن الديموقراطية من بوابة الاستقلال، ولا نعلم إذا كانت منهجية الكاتب هي التي حتمت عليه التغاضي غير المقصود ربما، في تعقب ولادة الأفكار الديموقراطية في العالم العربي؛ إذ لم يشهد طوال تاريخه تجارب حيوية تؤدي إلى تداول السلطة. لكن هذه الحقيقة التي لفت إليها كثيرون من أعلام العرب المعاصرين ـــ وفي مقدمهم أدونيس ـــ لا تنفي وجود إطار عام دشنته الأنتلجنسيا العربية، كما هي الحال في أوروبا التي خاض مفكروها، حرب الأفكار ضد السلطان الديني/ السياسي. كل ذلك أدّى إلى الفصل بين الدين والدولة، وأسس للديموقراطية الأوروبية. وإذا أسقطنا هذه الخلاصة على تطور فكرة الديموقراطية في المجال العربي، يمكننا تسجيل قائمة من الأسماء من دون أن ننسى المعوّقات البنيوية التي تعرقل إقامة أنظمة ديموقراطية حديثة.
في سياق تأريخه لتطور مفهوم الديموقراطية عبر النماذج التي اختارها، يسجّل صاحب «الدائرة المربعة» عدداً من الخلاصات المهمّة. فهو أولاً يؤكد أنّ الديموقراطيات مرّت بمراحل تراكمية عبر التاريخ، قبل أن تنضج وتسهم في بناء الأنظمة السياسية الحديثة في أوروبا والولايات المتحدة. والأهم أنّه يظهر دور البورجوازية في تكوّن الديموقراطية، وتحديداً في الثورة الفرنسية عام 1789. مع العلم بأن فلاسفة عصر الأنوار لم يكونوا بمنأى عن دخول أوروبا في عصر الحداثة السياسية، وإن لم نقل إنهم أسّسوا التحول باتجاه الديموقراطية... وهذا ما يلفت إليه الحوراني بطريقة غير مباشرة: فهو يؤرخ للأحداث من دون أن يخرج بنتائج. يتعقب أبرز المحطات التاريخية المؤدية إلى تبلور الديموقراطية، لكنه لا يحدد إشكاليته الأساسية، والغاية من تأريخه للنماذج التي درسها. يكتفي بملاحقة نشأة الديموقراطية بدءاً من سومر، وصولاً إلى الثورة الروسية.
رغم تحفظنا على عنوان الكتاب، لأن مضمونه يطال تطور الأنظمة الديموقراطية، أكثر من مفهوم الحرية، لا تلغي هذه الملاحظة أهمية دراسة الحوراني، إذا قارنا بين النماذج التي تطرق إليها وزمن الربيع العربي. وهذه المقارنة قد تفضي إلى حقيقة أن العرب في الطريق إلى التأسيس لأنظمة ديموقراطية حديثة، وأنهم أعدوا العدّة لإحياء دورتهم الحضارية. لكن هذه الدورة تحتاج إلى أجيال قبل القطع النهائي مع الاستبداد، والتدرج نحو الحداثة السياسية.