يدعونا فاضل سوداني إلى الخشوع ونحن ندخل مسرحه. يستبدل عبارة النص المسرحي بـ «الطقس المسرحي» لتكون خشبة المسرح بمثابة المعبد الذي تأخذ فيه الأصوات شكل الصلوات، والجسد حركات خشوع رمزية تحيطها هالات الضوء الخافت والبخور. دعوته هذه تصلنا من خلال كتابه «الرحلة الضوئية» (دار الغاوون)، الذي يتضمن «أربعة طقوس مسرحية عن العنف والتطهير»، كما جاء في عنوانه الفرعي. في المسرحيات الأربع الذي تضمنها الكتاب («الرحلة الضوئية»، و«النزهة أو النار المتوحشة»، و«أغاني جلجامش»، و«النزهات الخيالية»)، نتلمّس محاولة لتأسيس مشروع مسرحي يتخذ من فلسفة البعد البصري ثيمة أساسية. ثيمة تستفز مخيلة المشاهد اعتماداً على «تكامل وحدة العمل المسرحي في اللون وتقنية الضوء والظل، وحركية الإيقاع، وصولاً إلى التداعي أو الهذيان البصري لمكونات فضاءات العمل». مسرحيات فاضل سوداني المجتمعة في الكتاب، هي في الحقيقة نصوص تبحث عن الضوء لتطهر به روح الإنسان. تصل في بعض الأحيان إلى جَلْد الجسد بالضوء لاستجلاء الروح. هذا ما نتلمسه جلياً في «أغاني جلجامش». هنا «الإله مشغول بتنظيم أمور الكون وتوزيع الطاعون بالتساوي». يستدعي المؤلف شخوص عمله من رحم الأسطورة ليبث فيهم الحياة في مشهد يُنشِدُ فيه الكاهن شعره ناقراً على آلته الإيقاعية، فتبدأ «الشخصيات بالانبعاث من جديد، من الجمود والموت إلى الحياة من خلال الحركة البطيئة والإنارة واللون».نجد جلجامش الذي كثيراً ما يستَحِمّ بالضوء، وقد ظهر متمرداً على كل شيء، على الآلهة والملك والكاهن، وعلى تاريخ كاذب كتبه الأقوياء. نقرأ اعترافاً على لسان الكاهن: «مثلما خلقت أسطورة جلجامش، أستطيع أن أخلق ما أشاء». في هذا النص، نقرأ على لسان جلجامش ما يشير إلى أنّ فكرة «الطقس المسرحي» هي الأساس، الذي أراد المؤلف عبره تفكيك ملحمة جلجامش ليعيدها إلى واقع معيش، إذ يجرّد جلجامش من الأسطورة، ليحوله إلى فيلسوف حكيم، ثائر، يعيش بيننا ويتحدث بآلامنا. وهنا نتذكر أن المخرج والمسرحي العراقي كتب رؤيته عن الهدف من تناول الأسطورة في المسرح، إذ قال «ليس الهدف من استخدام الأسطورة في المسرح أن نجعلها مقبولة ومتطابقة واقعياً، بل الهدف أن تغني المسرح وتخلقه من خشونته حتى يكون أكثر شاعريةً وحلميةً وخيالاً، لأنّ المسرح الأكثر تطوراً وطليعية، هو الذي يسهم في جعل عالمنا المعاصر أكثر احتمالاً وأقل عنفاً».
رغم رمزيتها العالية، تبقى مسرحية «النزهة أو النار المتوحشة» الأكثر واقعيةً بين النصوص الأربعة. يرصد المؤلف حالة المسخ التي وصلها بعض ممن اشتغلوا مخبرين لنظام الدكتاتور، من خلال شخصية المخبر الذي يشي بولده الهارب ليقع في قبضة رجال الأمن ويساق للإعدام. وهنا يستدعي سوداني الضحية «الابن» ووالدته كضحية غير مباشرة لتبدأ حوارات مرَّة تأخذ شكل محاكمة وتأنيب واعتراف، حيث يحاكم المؤلف جلاد بلاده بسخرية عالية.
من الواضح أنّ النصوص الأربعة التي يحتويها الكتاب، تهتم على نحو أساس بـ «مسرح الصورة». يطرح الكتاب ضرورة بناء مسرح يعتمد الفلسفة والرؤى والأفكار النقدية التحليلية التي يعدّها سوداني مهمشة داخل حركة المسرح العربي، وخصوصاً العراقي..