لندن | قصّة «في مستوطنة العقاب» التي كتبها فرانتز كافكا عام 1914، تدور أحداثها في رقعة معزولة وقاحلة. وليس من المستغرب أن هذا النصّ الرؤيوي الذي لم ينشر إلا عام 1919، ما زال راهناً بعد قرابة قرن. هذا ما رآه المخرج الفلسطيني نزار أمير زعبي الذي نقل القصّة إلى الخشبة (إنتاج «شبر حرّ»، ترجمة علاء حليحل)، وها هي تعرض على مسرح «يونغ فيك» ضمن مهرجان «شبّاك: نافذة على الثقافة العربية المعاصرة» في لندن.
لا ناس في المكان سوى سجين محكوم بالإعدام (طاهر نجيب)، وضابط (عامر حليحل) مسؤول عن آلة ضخمة لتنفيذ حكم الإعدام. تعمل الآلة حين يُدخل المحكوم (من دون محاكمة) إلى قلبها، فيمرّ بخطوات تعذيب تدريجية حتى النهاية. لكن يبدو أنّ مبدأ الجهاز الذي بناه «القائد سابق» لا يعجب «القائد الجديد». هكذا، يجد الضابط نفسه ممزقاً بين ولائه للقائد السابق الذي أسس «المستوطنة» والجهاز، ورغبته في وضع حد للجهاز. صراع ينكشف مع قدوم زائر مجهول (مكرم خوري) إلى المستوطنة.
«في مستوطنة العقاب» عمل حافل بالإحالات الرمزيّة. من أوروبا عشية الحرب العالمية إلى فلسطين تحت الاحتلال الإسرائيلي، ليست هناك إلا خطوة بسيطة يقوم بها المشاهد بسهولة. العمل راهن بشكل مدهش، مشرّع على اضطرابات عصرنا، وحروب الدول الكبرى على «الإرهاب»... وسجن «غوانتنامو». هنا أيضاً يعيش سجناء بلا محاكمة في مستوطنة خارج حدود الولايات المتحدة، لكنها خاضعة لها في آن. وفي تطبيقاته الجديدة، يحافظ النصّ على رؤية صاحب «المسخ» ونقده لـ«منظومة» كاملة عايشها مع بداية القرن العشرين: إنّها لحظة قيام العصر الصناعي الذي جعل الإنسان عبداً للمنظومة الرأسمالية الجديدة، وزمن أوهام التطوّر التي ستؤدي إلى كابوس التوتاليتاريّة. في النهاية لم تتغيّر أمور كثيرة في زمن العولمة الذي يعدنا بنعيم جديد، ترافقه الحروب والكوابيس والمذابح.
العمل الفلسطيني يقوم أيضاً على قوّة الأداء: عامر حليحل أتقن التعقيدات الكامنة في شخصيته. وكذلك طاهر نجيب الذي يعدّ من الممثلين الذين يتقنون التحكم بجسدهم. أما مكرم خوري العائد إلى خشبات لندن بعد مشاركته في مسرحية «11 و12» مع المعلّم البريطاني بيتر بروك، فيؤدي دوراً صعباً بسبب ضبابية ملامح شخصيته في القصة الأصلية. الرؤيا الإخراجيّة جاءت كافكاويّة بامتياز. الفضاء أسود، يكسره حضور الجهاز الذي يبدو بيتاً خشبياً. مصمم الديكور (أشرف حنّا) أيضاً عمل وفق الاستعارات، فنشر عبّاد الشمس على الخشبة بوصفها رمزاً للعقاب. فرقة «شبر حر» الفلسطينية استحضرت كافكا نصّاً وإخراجاً وأداءً. لكن العمل المسرحي جاء عربيّاً بامتياز: حين يهيمن سادة العالم الجديد باسم التطوّر والديموقراطيّة والسلام والعدالة، يتحوّل أهل الأطراف عبيداً للمنظومة، وتكون النتيجة مزيداً من الانحطاط والحروب وشقاء الإنسانيّة.



حتى 23 تموز (يوليو) ـــ مسرح «يونغ فيك» ـــ http://www.youngvic.org