لم يجد النظامُ البحريني مدافعاً عنه ـــــ عدا مثقّفيه «العضويين» ـــــ سوى الروائيّ الجزائري محمد مولسهول (الشهير باسمه المستعار ياسمينة خضرة). هذا الأخير رافع عنه في مقالة طويلة نُشرت يوم 12 تموز (يوليو) في جريدة L’Expression الجزائرية (الناطقة بالفرنسية)، وحملت عنوان «فضل السراب على الواحة» (على منوال آخر رواياته «فضل الليل على النهار»). وتفتتح هذه المرافعةَ جملة تبدو سريالية بالنظر إلى الاضطرابات الدامية التي عاشها هذا البلد: «ليس بمقدور أيّة دولة أن توفر إطار حياة أحسن من ذلك الذي توفره البحرين». لا ندري ما يعنيه بـ «إطار الحياة»، لكن أياً كان معناه، فهل لضحايا الربيع البحريني من قتلى وجرحى ومساجين مكان في هذا الإطار البديع؟ويُذكّرنا الكاتبُ بأن البحرين كانت تسمى «دلمون» أي «بلد الخالدين» (بالمناسبة، هي لا تزال تستحق اسمها العتيق، وعنينا بـ «الخالدين» آل خليفة)، وأنّ «الفينيقيين وحضارات أخرى شيّدت فيها إمبراطوريات كانت العبقرية الإنسانية فيها تُطاول عبقرية الأولمب». من حقّه أن يضفي شرعيةَ التاريخ على النظام البحريني، وأن ينصّبه وريثاً شرعياً لحضارات القدماء... لكن كيف له أن يقنعَنا بأن إمبراطوريات بأكملها شُيِّدت على 700 كلم مربع، هي مجملُ مساحة البلاد؟
كي يغمر واقع البحرين القمعي في بحر مجده التليد، لا يتردّد مولسهول في استعمال ميتولوجيا بلاد الرافدين بما يخدم نواياه: «وأنا أزور المتحف الوطني (...)، أحسست بأني أعود آلاف السنين إلى الوراء، فطيفُ جلجامش في كل زاوية». ثم يُسهب في رواية مغامرات هذا البطل الملحمي، مازجاً الأحداث الأسطورية بالأحداث الحقيقية، بما يوحي للقارئ بأن حمد بن عيسى آل خليفة هو سليلُه وعاهلُ دلمون، لا قائد دولة يُقتل فيها المتظاهرون المسالمون. لماذا سافر إلى البحرين؟ ليتأكد من أنّ إطراءه للنظام البحريني في جريدة Liberté اليوميّة (٢٦ حزيران/ يونيو 2011) ـــــ الذي عابه عليه كثيرٌ من المثقفين ـــــ كان مبرَّراً أيّما تبرير.
يقول: «هل تغيّر (البلد) الذي كنت أعرفه في هذا الوقت القصير، وهل تحوّل الملك (...) الذي كان الجميع يثني عليه إلى طاغية؟ لأعرف هذا وذاك، جبت البحرين من أدناها إلى أقصاها، من دون هوادة. ورغم حمّارة القيظ، وصلت إلى هذه الخلاصة: ليس عليّ أن أندم على كلمة واحدة (...) مما قلته». طبعاً، يملك مولسهول مطلق الحق في التعبير عن رأيه، لكن من الصعب أن يقنعَنا بأن ريبورتاجه ثمرةُ عمل استقصائي شاق، فليس مضنياً أن يجوب دولة مساحتها هي حاصلُ ضرب 27 كلم في 27، معزّزاً مكرّماً من طرف السلطات.
ومن الأشياء التي تعلّمها الكاتب بفضل سفره على خطى جلجامش، أن ثلثي سكان البحرين من أصول غير بحرينية، وأنّ للأجانب فيها حقوقاً ليست لهم في باقي دول الخليج، كحقّ التجنس والتملك. لم يتساءل أبداً ما إذا كان سببُ قبول آل خليفة إعطاء الجنسية البحرينية لهم، هو السعي إلى قلب موازين القوى الطائفية لمصلحة الأقلية السنية، بل يدفعه إعجابُه بـ «إطار الحياة» البحريني، إلى تبني نبرة دعائية صرف، فيقول على طريقة الكتيّبات السياحية: «لا ضرائبَ، العلاجُ من دون مقابل، الاستثمارُ حر، مِنحٌ للطلبة المتفوقين من دون تمييز على أساس الجنس أو اللون، نظامُ مساعدة اجتماعية، ومساعدة لإنشاء الشركات، وحرية المعتقد والملبس مضمونة». باختصار، «شيء على نقيض الكليشيهات والأفكار المسبقة».
لا ندري عن أي كليشيهات يتحدث (اللهم إلا إذا عنى كليشيهاته الخاصة قبل سفرته المفيدة). الكلّ يعلم أنّ لسكان البحرين امتيازات اجتماعية كثيرة (وإلا لما كان وجهة مئات آلاف المهاجرين). وعلى أي حال، ليست المشكلة في تذكيرنا بهذه البديهيات، بقدر ما هي الهدفُ من التذكير، أي تقويض أطروحة قيام انتفاضة سياسية واجتماعية في البلاد، والدفاع عن أطروحة نكران الشيعة المدللين لجميل «وليّ أمرهم». «ربما مكمنُ هشاشة هذه الدولة هو كرمُها الواسع، وتسامحُ ملكها التي يظنه بعضُهم تهاوناً وضعفاً»، كما يكتب محمد مولسهول.
بعد هذا الفاصل الإعلاني، يدلي بشهادة قيّمة عمّا رآه، مقتنعاً كلّ الاقتناع بأنها ستكفينا عناءَ متابعة أخبار البحرين في الجرائد والفضائيات، وتقارير منظمات حقوق الإنسان: «مدينة هادئة، طرق سريعة حافلة حتى وقت متأخّر من الليل بأناس طيبين مؤدبين». وتمزّقه الحيرة فيكتب: «يصعب فهمُ ما جرى، فلا أحد كان يتوقّعه. صحيحٌ أنه من وقت لآخر، كانت تجري أحداثٌ يتسبب بها الشيعة (الذين يمثّلون أغلبية السكان)، لكن توقّعَ هذه المأساة كان يتجاوز الإدراكَ». وعلى لسان محدثّيه من مساندي النظام يضيف: «الشيعة أغنى الناس وأحسنُهم سكناً، والملك لا يخدم أحداً كما يخدمهم». لماذا ثاروا إذاً؟ «بعض المتعصبين حاولوا إطاحة عاهل شديد التسامح، أعطاهم كل شيء. الحديثُ هنا بالغُ الصراحة عن هيمنة إيران، التي تستغل احتلالَ العراق لبسط نفوذها في المنطقة بأكملها».
ويلحّ مولسهول على البعد الطائفي (الحقيقي) للتحركات الشعبية البحرينية، لطمس بُعدَيْها السياسي والاجتماعي، كثورة على سلطة وراثية طائفية. ولأنه كان حبيسَ كرم مضيفيه، لم يلتق المعارضين ليسألَهم عن رأيهم في جنان دلمون. كذلك لم يزر «دوّار اللؤلؤة» لأن السلطات أغلقته «كأنها بذلك تمحو أثر صدمة عاطفية لا تطاق». «صدمة عاطفية»؟ ربما يقصد إطلاق الشرطة النار على المتظاهرين، وهو ما شاهده العالم كله، فاستحال وصفُه بأكذوبة من «أكاذيب الإنترنت».
ومن فرط كرمها، أتاحت السلطاتُ البحرينية له أن يقابل في سجنها الشاعرةَ آيات القرمزي (راجع الكادر)، ويا لواقع المفاجأة عليه، وهو يرى محلّ اعتقالها «لا يشبه السجون التقليدية، فلا أسوارَ عالية ولا بوابة ضخمة مخيفة ولا جهاز سكانر (...)، ما يجعله أشبه بمبنى إداري عادي». أما السجينةُ، «فلا أثر على وجهها للتعذيب، سواء أكان قديماً أم حديثاً (...) كما أنّ فمَها، الذي قيل لنا إنه خِيطَ بالمشابك، أنضرُ من أكمام الورد».
هذا جزء يسير مما كتبه مولسهول دفاعاً عن العائلة الحاكمة البحرينية، تتخلّله دعواتٌ إلى الجزائريين إلى عدم الوقوع في فخ الفوضى، واستذكاراتٌ طويلة لمآسيهم خلال اضطرابات التسعينيات، وتنديداتٌ شديدة اللهجة بتحيز الإعلام العالمي. كان بودّنا أن نشاركه الرأي في حقيقة هذا التحيز، لولا أن مقاله هو الآخر فاقدُ الموضوعية، لا ينقل سوى رأي السلطان وأحبابه، ولا أثر فيه لأي صوت آخر. حتى وهو يزور مستشفى يعالَج فيه ضحايا أحداث العنف، لم يعط الكلمةَ إلا لـ«جريح سنيّ» قال له: «إذا كان جُرحي هو ثمنَ عودة وطن الأمس الجميل، فما أسعدني بان أكون طريح هذا السرير».
آخرُ ما يجب قوله عن حبّ هذا الكاتب للبحرين أنه زارها بدعوة من وزيرة الثقافة البحرينية، الشيخة مي بنت محمد آل خليفة. ورغم انشغاله بالتجوال في البلاد «من أدناها إلى أقصاها»، كانت له فسحة ليتسلم من يدها جائزة الإبداع الثقافي، ويَعِدَها بأنه «سينقل إلى العالم الغربي الصورة الحقيقية (للمملكة) التي شوهتها بعض وسائل الإعلام»... أليس هذا على الأرجح الغرض الرئيسي من دعوته إلى زيارة «دلمون»؟



شاعرة «الدوّار» غير نادمة!

آيات القرمزي (1991) خرجت من السجن قبل أيّام، لتعلن أنّ الاعتذار الذي بثّه التلفزيون الحكومي البحريني على لسانها، عن الأشعار التي ألقتها خلال احتجاجات «دوار اللؤلؤة»، سُجّل بـ«الإكراه». وكانت الشاعرة الشابة قد اعتُقلت في آذار (مارس) الماضي وبقيت أربعة أشهر في سجون النظام، بعدما ألقت أشعاراً عُدّت «مهينة» بحق العاهل البحريني الملك حمد بن عيسى آل خليفة.