يستدرجنا ياسين رفاعية في روايته «من يتذّكر تاي» («دار الخيال»، بيروت) إلى بيروت الستينيات، بكل صخبها وهزائمها وحكاياتها السريّة. وإذا به يزيح اللثام عن شخصيات مشهورة بأسمائها الحقيقية؛ إذ كانت مقاهي شارع الحمرا وحاناته، ملتقى عشرات الأدباء والصحافيين في سجالات سياسية ساخنة، وخيبات عاطفية، ومشاريع إبداعية، أطاحتها هزيمة حزيران 67 التي وضعت أوزارها للتو. يوجّه صاحب «مصرع الماس» تحية خاصة إلى ميشال أبو جودة، صاحب أشهر عمود يومي في لبنان آنذاك (جريدة «النهار»)، مروراً برواد مقهى الـ«هورس شو» أقدم مقاهي الحمرا، ليحط رحاله أخيراً في «بار تاي». في هذا البار الذي كانت تديره امرأة مصرية فاتنة، سنلتقي غسان كنفاني، ومعين بسيسو، وعصام محفوظ، وكمال ناصر، وسامي الجندي، وأكرم الحوراني... فيما كانت «تاي» محطّ أنظار الجميع وصندوق أسرارهم.
لكلٍّ من هؤلاء حكايته وإحباطته في العشق والسياسة والكتابة، بمن فيهم «تاي» ابنة الباشا المصري التي درست الفلسفة في جامعة الإسكندرية، قبل أن تنتهي ساقية في إحدى حانات بيروت، إثر مصرع والدها على يد مافيا إيطالية.
نفتش عن خيوط حيوات هؤلاء المشاهير في الفصول اللاحقة، فلا نجدها إلا لماماً؛ إذ يغلق الراوي الأحداث على حكاية تاي من جهة، وعشقه لفتاة شابة تدعى شيرين من جهة ثانية. فيما هو صار عجوزاً من دون أن نغادر حقبة الستينيات الملتهبة زمناً مفترضاً للأحداث. لعل الخلل السردي يكمن في هذه النقلة المباغتة؛ إذ لا يتوانى الراوي عن عقد صداقة بين شيرين وتاي، رغم طول المسافة بين زمني الأحداث. ما كنا نظنه مكاشفة تسجيلية ساخنة، سيتبدد فجأة، حتى إننا لن نلتقي غادة السمّان في متن الرواية باسمها الصريح، فيما تعدنا كلمة الناشر بقصة حب مستحيلة بطلها غسان كنفاني.
هذا المزج بين ما هو واقعي ومتخيّل، يضع النص في منطقة ملتبسة لجهة آليات السرد. يكتشف الراوي، أثناء زيارته بيت تاي دفتراً، يحتوي على يوميات كانت تكتبها، وها هو يستعيد أقوالاً من ذلك الدفتر، ينقلها بدقة من يقرأها الآن، رغم عدم وجود الدفتر بين يديه، على عكس دفتر آخر، سلّمته إياه لاحقاً، سيضيء جوانب من حياتها السريّة، بين القاهرة وبيروت... وإذا بالساقية الفاتنة، فيلسوفة من طرازٍ خاص، تدعى «عائشة بنت عبد الودود باشا»، يلجأ إليها العشاق المتعبون، فتمنحهم نصائح ثمينة تخفف الوطء عن آلامهم.
هكذا تنفجر مأساة عصام محفوظ الذي خانته حبيبته مع أحد أصدقائه، بصدمة لا تقل عن صدمة هزيمة حزيران. الهزيمة التي كانت تلهب مشاعر الآخرين، بكل قسوتها المدمّرة، فتنساب قصائد معين بسيسو بغضب، ويحلم غسان كنفاني بالعودة إلى يافا. فيما يغرق الراوي في قصة حب عاصفة، تتكشف عن لوليتا شرقية، ستأخذ به إلى «جنون الهذيان».
نحن أمام قصة أخرى، ستنسف ما عداها، عدا إشارات لاحقة إلى اغتيال غسان كنفاني، ثم كمال ناصر، وكمال عدوان، وأبو يوسف النجار؛ إذ يغرق الراوي في عزلة طويلة، إثر هجران حبيبته له، فهي قررت الزواج برجل أعمال مهاجر، ينتمي إلى طائفتها، ومثل عاشق خائب في أحد أفلام الأبيض والأسود، يلجأ إلى الخمرة لمعالجة آلام الخيبة في إحدى خمارات عين المريسة. مشوشاً، ومحزوناً، ومكتئباً، يسترجع رسالتها الأخيرة التي أنهتها بعبارة «مع حبي دائماً وأبداً».
ما إن يطوي الراوي صفحة حبه لشيرين، حتى نتعرّف إلى طارق. شاب سعودي، يدرس في بيروت، وقع في غرام تاي، وقرر الزواج بها، متجاهلاً فرق السن بينهما، وسيغادر لاحقاً إلى بلده. فيما تبقى بطلتنا أسيرة مرض لا شفاء منه، ينتهي بميتة مفجعة. هذا الخذلان في الحب، يقابله خذلان آخر في السرد، في خلطة حكائية غير متجانسة. فما بدا أنه سيرة مدينة، اختلط بوقائع شخصية عاشها صاحب «أسرار النرجس» لاحقاً، وإذا بقماشة أخرى تصبغ الحدث، ليتشظى إلى جهات عدة، وأزمنة متباعدة، تنطوي على ذاكرة مفلوشة، تضعنا أمام حكواتي أضاع بوصلته تحت وطأة النسيان.