أجوبة
أجوبة استدعتها أسئلة من قارئ:
قَدْر الإمكان، حاولْ عزل الشعر عن ضجيج صاحبه. تجنَّب «نقد» الحزبيّين والعقائديّين لـ«شعرائهم». ضع الشاعر في ظروفه ولا تحبسه في قوميّة أو عنصريّة، ولا في قضيّة سياسيّة مهما «تقدَّسَتْ».
الأدب، مثل السياسة، فيه سلطويّون. الحكّام الطغاة أقل نرجسيّة أحياناً من الأدباء. الفرق أنّ الحاكم واقعٌ زائل بينما الأثر الفنّي قد يبقى أو «يُهدّد» بالبقاء. شخصيّات الواقع، من الشحّاذ إلى الطفل والأمّ إلى أستاذ المدرسة، أحجار كريمة خام تأتي وتذهب تحت جنح الغمر. الكاتب «المسؤول» يتقمّصها أو يضمّها أو يتأثّر بها ولا بدّ أن يُرجّع أصداءها على هذا الشكل أو ذاك، ممكن في رواية مباشرة كـ«البؤساء» وممكن في قصائد غير «ملتزمة» كشعر بودلير ورمبو وممكن في أدبٍ لا يُصنَّف كمسرح شكسبير وقصص دوستيوفسكي وتولستوي وبلزاك.

لا تحاذر جميع الفرديّين، ليسوا سواسية. الفردي الذي تتمرأى فيه ذاتك الاجتماعيّة ووجاهاتك، يزيدك فقراً. الفردي الذي يضعك على تماسٍ مع غائبات نفسك ورؤى ذهنك واعترافك المشتهى، يأخذ بيدك إلى قلبك. انتبه من الفردي الذي صمَّم أن يستتبعك. أمّا اللافرديّ الذي يريدك تابعاً فهذا أشدّ خطراً لأنّه يتكلّم باسم الجماعة.
لا تسلْ كاتباً لماذا يكتب. أجاب أحدهم مرّة: «لأختصرَ الوقت». جواب «لأطيل الوقت» ممكن أيضاً. قال آخر: «عن ضعف»، ولغيره أن يقول: «عن قوّة». لا تسل امرأةً لماذا تقف أمام المرآة.
هَزَّني سؤالك: «لماذا تتحدّث بهذه الثقة؟ وهل تظنّ نفسك أفضل من الآخرين؟». ما تراه ثقة منتزعٌ بشقّ النفس من حيرةٍ مُمضّة ومن مشاعر نقصٍ تفاقمتْ حتّى أضحت تبدو كعكسها. أرعى نواقصي كما يُستِّر المبتلي على معاصيه.
أَحتاجُ دوماً إلى مَن أُعجب بهم. ربّما هذا هو ما أدعوه الحبّ.



في الانتظار

الليل يصبو إلى نهارٍ يُشبع ظمأه إلى النهار لا إلى نصف ليلٍ نصف نهار، والنهار يرتجف قلبه من عتم الليل لكنّه كان سيرتاع أكثر لو خالط العتمَ ضياءٌ شمسيّ. كنْ ما يجب أن تكون. الشيطان أيضاً يتوق إلى عفوٍ يُخلّصه، لكنّه في الانتظار يعيش كشيطان.



حيرة انتماء

الحالة الشعريّة تسترجع الاتحاد الذي قد يصدّعه العلم بين الإنسان والكون. جَنَحَ العلم نحو اختزال الكائن إلى حجم الكشف العقلي، إلى الوجود الميكانيكي. لم يتعمّد ذلك بل حصل الأمر على يده لأن طبيعة العلم تستتبع حدودها هذه. أُخذ الإنسان بالقدرة العلميّة ساعة كان لا مفرّ من أن يؤخذ بها، ثم انتبه إلى كون هذه الدهشة لم تخطفه الخطفةَ المرجوّة، وأنّ العلم مكّنه بيد من وسائل وبيدٍ لَجَمَ فيه شعور الانتماء الكوني.
أخطر من شأن العلم في ذلك شأنُ الأديان: توقظ في الإنسان وشائج القربى الشموليّة الغامضة وفي الوقت نفسه تحذّره من الوقوع في «شِرك» الاعتقاد بوحدة الوجود والكون.
يومَ كان الإنسان يعبد الطبيعة في مظاهرها، هل كان أقرب إلى الصواب؟



فجريّة

قرب البيت شجراتٌ عتيقة، كثيفة، عالية. في الفجر تصدح جوقة بلابل وحساسين وأنسبائها في احتفال لا يصدّق السامع أنه أداء عصافير، وفي أحسن الظنّ يقول: أسطوانة مسجّلة وقّتها صاحبها على الفجر، تعويضاً عن مجموعة ديوك كانت في الحي، قبل انتقالها، تقضّ المضاجع بصيحاتها الحادّة مبدئةً النهار، ولا نهار، بجلجلة عنتريّة تُمزّق الأعصاب، مدمجةً صورة النهار بالقرقعة.
الفجرُ طريّ كعجينة تهلّها امرأة قرب الصاج. رقّة المغيب آسفة، رقّة الفجر إغراءٌ بوليمة.
الفجرُ والعصافيرُ شَنٌّ وطَبَقة. الديكُ دخيل، كجميع الموقِظين.



منذ تلك اللحظة

«... وإذ أصبح نظري أشدّ نقاء
راح يخترق أكثر فأكثر
شعاعَ النور الأعلى
الذي هو في جوهره الحقيقة.
منذ تلك اللحظة، ما أبصرتُهُ يتجاوز الكلام
وقد غَلَبَتْه المعاينة
كما يغلب الإفراطُ الذاكرة».
دانتي
النشيد الثالث والثلاثون (الفردوس)
من «الكوميديا الإلهيّة»



كلّ شيئ

الصومعة، رمزُ التركيز الفكري، نستطيع إيجادها في صميم الضوضاء. هنيئاً لمَن قُيّضت له عزلة الأماكن، سكينة الأديار والقصور، نقاءُ هواء البحر والأحراج، عظمةُ المرتفعات وهدهدةُ الجداول...
لقد وجد أمين الريحاني ضالته في الفريكه ومخايل نعيمه في الشخروب لكن جبران استطاع إيجادها في غرفته بنيويورك وظلَّ فيها حتّى موته، وفي هذه الغرفة سبر أغوارَ نفسه وغاص في «الداخل» بمنتهى الصفاء دون أن تعوزه سكينة المحيط الجغرافي وعمق الغابات.
وربّما أعْوَزَتْه، فألجأهُ ذلك إلى مزيدٍ من التعويض الداخلي.
هذه الإشارة ليست لتمجيد التقشّف، فالتَرَف ممتع، لكنّها للتذكير بأنّ كلّ شيء هو في الرأس.



طريدُ عدالة؟

هاربٌ دائماً من شيء. في صالة السينما من الخارج وأمام الشاشة من مشاهد التقبيل. في الحي من صراخ الأزواج. في الطريق من الطريق. في الصحف من أخبار الوفيّات. في الأفلام من مشاهد التوليد. في الأفلام من مشاهد التشريح. في الأفلام من مشاهد الفلاش باك. على التلفزيون من البرامج الهزليّة. في الكتب من السرير. في السرير من الوعي. في المرآة من شخصٍ آخر. في المرآة من الناظر في المرآة.



عابرات

النبعُ ينبع، الترابُ هو الذي يحوّل دفقه إلى خضرة.

■ ■ ■

على حافة المقعد، أمامكَ، وقد شبكتْ يديها فوق ركبتيها ونظرتْ بارتباكٍ إلى هلال ماضيها البازغ، اصغِ إلى الفتاة تروي لكَ حكايةَ سنيّها الخمس عشرة.
ما لغصنٍ بأحلى من عصفور كهذا.

■ ■ ■

أقدارنا تسوقنا بما تجهل هي ذاتها مرّات.

■ ■ ■

سرٌّ تتكاثف أسراره بعد استسلامه...

■ ■ ■

كم مرّةٍ تقود الخطى صاحبها في النفق إلى حائط مخيف، وبينما هو في رعدةِ ضياعه يتناهى إليه أنين الظلام وبكاء الحائط، فيستطعم من هذه الأخوّة رحيقاً شبيهاً بالرجاء.

■ ■ ■

الألم الذي يرافقكَ يتشفّع لك لا لأنّه ألم بل لأنّكَ تبتسم.

■ ■ ■

إذا كان النسيان شكلاً من أشكال الجبن، ألا تكون الذكريات نوعاً من الشجاعة؟