بات واضحاً، أن مقالتي المنشورة بعنوان «الجندي الأميركي الذي عشق طيور العراق» («الأخبار»، 27 أيار/ مايو 2011) التي تناولتُ فيها كتاب «طير العراق» للمؤلف جانثن ترورن ـــــ ترند (دار الجمل) أثارت حفيظة مترجمه كامل جابر، ليرد عليها بمقالة مطولة بعنوان «عن المؤلّف الأميركي... والفرق بين الحنطة والشعير» (عدد «الأخبار»، 8 حزيران/ يونيو 2011).أود أولاً تسجيل أسفي لما جاء في مقالته من محاولات التشويه والنيل مني شخصياً عبر جمل تخبئ بين طياتها إساءة لا أستحقها. حين يكتب جابر أن «ما ذكره، السكاف، في مقالته عن الكتاب يصحّ، وفق منطقه، أن يقال عن أيّ كتاب آخر يكتبه أي مؤلّف أميركي آخر، يتناول أي شيء آخر في الشرق الأوسط. ذلك أنّ الأميركي غازٍ معتد قاتل»، يبدو كأنّه يريد الإشارة إلى أننا نمتلك نظرة ضيقة أو عمياء، صوب كل منتوج أدبي أو فني أميركي، ليضعنا ضمن رهط «الأميين الكتبة». وهنا، من واجبنا أن نذكّر جابر بمقولة نوام تشومسكي «إذا كنت تؤمن بحرية التعبير، فأنت تؤمن بحرية التعبير عن الآراء التي لا تعجبك». وبكل تأكيد، فإن صاحب المقولة أميركي، وله العديد من المؤلفات والمقالات، فهل هناك من ادعى أنه «غازٍ معتد قاتل»، كما جاء في اتهامات جابر!؟
عبارة أخرى وردت في مقالة مترجم الكتاب جاء فيها: «ليس مبالغة القول إنّ القراءة الكَلْبِيّة الشاكّة أصبحت مهنة يمارسها كثيرون، لأنّ سوقها مزدهر في أيامنا». وهنا الإساءة واضحة جداً، والمقصود بـ«القراءة الكَلْبِيّة» النبش والبحث وراء أي دليل قد يجعل من الشك حقيقة، تماماً كما هي «مهنة» الكلاب البوليسية، حيث كان بوسعه القول، القراءة على طريقة من يتبع المذهب أو الطريقة «الكَلْبِيّة ـــ Cynicism»، لكنه لم ينح هذا المنحى لأنه قصد الإساءة. وأورد في مقالته أيضاً دعاية مجانيّة للقوّة الأميركية على حساب الجريدة في قوله: «في خضم هذا الإحباط، نسي بعضهم ـــــ بل لم يخطر على باله (ويقصد كاتب هذه السطور) ــــ أنّه من أجل تشريح «العقلية» الأميركية، يجب تشخيص مكامن القوة الأميركية وتعليلها. والأهم كشف مواطن ضعف العناصر المعْترِكة في البوتقة الشرق ـــــ الأوسطية». ولا ندري ما دخل كل هذا في فكرة مقالتنا؟
الآن، بعيداً عن السفسطائية والرطانة، يمكنني مناقشة ما وجده منتقدي «باطلاً» في مقالتي... أول ما يلفت الانتباه في ردّ جابر، حدّته التي نتمنى ألا تنطبق عليها مقولة عالم الاجتماع الأميركي إريك هوفر «نكذب بأعلى صوت، عندما نكذب على أنفسنا». لكن ما ورد في قوله: «لا يروي المؤلف ما يرويه عن الطير بصفته متخصصاً في علم الأحياء، وهو ليس متخصصاً...»، يدفعنا إلى التفكير بأن المترجم لم يرَ الكتاب بعد طباعته! وما قوله: «هذه ليست أمثلة حقيقية مقتبسة؛ لأن الكتاب لا يحضرني في هذه اللحظة...»، يؤكد لنا ذلك. فإذا سلّطنا نظرة بسيطة على الصفحة الرابعة من الكتاب نقرأ في سيرة المؤلف الذاتية: «حصل جانثن ترورن ــــــ ترند على البكالوريوس في البيولوجيا/ الأحياء من جامعة كَنكتيكت...»، وهذا يتنافى مع ما تقدم به جابر. إشارة أخرى تؤكد لنا عدم اطلاعه على الكتاب، حين يبرر ما جاء في مقالته «لا يتناول الكتابُ الحرْبَ، رغم أن المؤلّف محاربٌ مُدجّجٌ، لكنه يرصد مشاهداته للطير، ويخبر أنّه يقوم بهواية ابتدأها على الشبكة العنكبوتية، ثم شجّعه الأصدقاء على نشرها في كتاب».
وهنا نضع أمام المترجم ما يدحض مزاعمه بأن المؤلف «يقوم بهواية ابتدأها على الشبكة العنكبوتية»: لقد جاء على لسان المؤلف في الصفحة 21: «أمارس هواية مشاهدة الطير منذ أن كان عمري اثني عشر عاماً، أي منذ أربع وعشرين سنة». ويعود في الصفحة 63 ليؤكد اهتمامه بالطير حين يقول: «في السنتين الماضيتين لم أستطع إعداد قائمة مماثلة لجمعية «أودوبن» التي أشترك فيها منذ أن كان عمري أربع عشرة سنة». وجمعية «أودوبن» هذه ـــــ وفق ما جاء في الهامش رقم 14 ـــــ «منظمة بيئية أميركية غير ربحية تهتم بالمحافظة على البيئة وإحيائها، أسست في 1905، وهي من أقدم المؤسسات من هذا النوع في العالم. تركز على الطير والحياة الطبيعية الأخرى». فقد اعتاد المؤلف منذ انتمائه إلى الجمعية تزويدها سنوياً بقائمة الطيور التي يشاهدها خلال العام، فهل يكفي هذا لدحض افتراءات كامل جابر التي جاءت بها مقالته والتي أراد منها أن تظهرنا بمظهر الذي «يهرفُ بما لا يعرفُ».
في زاوية أخرى من الكتاب، وجدنا أن هناك الكثير من المشاهدات الملفّقة للطير في العراق، ما يشير إلى أن المؤلف اتخذ من الطير متكأً ليصور لنا حالة القوة والوئام التي ينعم بها الجندي الأميركي في «بلده» العراق. فلا يمكننا تصديق المؤلف حين يقول: «هبت علينا اليوم عاصفة رملية. اهتزت الأشجار وهطلت علينا طبقات من الرمل. هناك في الخلف شاهدت عصفورين وبلبلين من ذوات الخدود البيض يطاردان فراشة بيضاء كبيرة من دون جدوى».
فهل رأى كامل جابر مرةً ـــــ وهو ابن السماوة المشهورة بعواصفها الترابية والرملية لقربها من منخفض الناصرية ـــــ أن الطيور الصغيرة والفراشات تطير أثناء العواصف الترابية أو الرملية؟ ثم يصور لنا المؤلف في مكان آخر، حالة السلام والحرية التامة التي يتمتع بها الجندي الأميركي حيث يقول: «كان الطائر منتبهاً جداً يجثم على القصب أمامي. أظن أنني مشيت أربعة أو خمسة أميال مرتدياً جميع طاقمي العسكري وكنت قد غطست بعرقي بصورة كاملة حين أُبْتُ إلى القاعدة». ترى هل يصدق أن جندياً أميركياً يسير وحيداً بكامل حلته العسكرية كل هذه المسافة، من دون أن ترافقه قوة مدججة بالسلاح، أو من دون أن يعترضه أحد؟
يبدو أن جابر يريد منا قراءة النص على هواه، أو ربما، مثل ما يتعامل طالب الابتدائية مع «كتاب القراءة»!
وكل قراءة تأتي بعكس ذلك، حسب رأيه، تكون «قراءة سيكولوجية وجيوسياسية متعَسّفة... وفرويديّة معوجّة»! كيف يتناسى أن طبيعة اللغة، من حيث الدلالة والمعنى، هي أهمّ ما يبحث عنه القارئ والناقد على حدٍ سواء؟
أخيراً، يكتب كامل جابر: «يحاول السكاف التمرّن على استخدام مهاراته اللغوية السيمانطيقية، وأثناء ذلك، يمسك بالمؤلف متلبّساً لأنّه استخدم عبارة «خرائب بابل» بدلاً من الاسم المعروف «منطقة آثار بابل»، لكن ما هي الخرائب وما هي الآثار؟ هذه هي تلك، لغة بل حتى اصطلاحاً». إذاً لا يدري مناقشنا أن الفرق بين «آثار بابل» و«خرائب بابل»، هو نفسه الفرق بين القدس وأورشليم... وله أن يدرك المعنى «المنشود» الذي يفصل بين الكلمتين.



لمحة

«عندما أفكر في الوقت الذي قضيته في العراق، أفكر أولاً بالأشياء الطيبة: أفكر بأصدقائي العراقيين والأميركيين، والوقت الذي أمضيته وأنا أشاهد الحياة الطبيعية. ورغم أنّ وحدتي الطبية رأتْ وجهَ الحرب القبيح، اكتشفت بلداً غنياً بالتاريخ والجمال الطبيعي». هكذا يحكي جانثن ترورن ــ تراند عن تجربته العراقية في كتابه «طير العراق» (دار الجمل: ترجمة كامل جابر)، من دون أي ذكر لضحايا الحرب المستعرة حوله.