تلفت «دار الخيال» (بيروت) في مقدّمة «أبناء الجهاد» (ترجمة محمد أبو خالد) إلى أنّها «حرصت على عدم وضع أي تعقيب على آراء كوهن، بهدف نقل رؤيته على حقيقتها»، وتؤكّد أنّها لا تتبنى آراءه. إذ إنّ مؤلّف العمل المثير للجدل ليس سوى جاريد كوهن (1981) الباحث الأميركي اليهودي، والذي عمل سابقاً في طاقم تخطيط سياسات وزارة الخارجية الأميركية ويعدّ من بين مهندسي «الديموقراطية الرقمية». وها هو يقرّر أن يكتب رحلته إلى الشرق الأوسط في محاولة لفهم ثقافة «الإرهابيين» كما يصفهم!
من إيران إلى لبنان، ومن سوريا إلى العراق، يرصد مستشار هيلاري كلينتون، رحلته «المحفوفة بالمخاطر» إلى الشرق الأوسط، بحثاً عن سؤال: «ماذا يريد شباب المنطقة من حكوماتهم اليوم؟». درس كوهن العربية قبل أن يقرر السفر إلى الشرق الأوسط. يعدّ هذا الشاب اليوم واحداً من أهم أربعين شخصية في العالم تحت الأربعين، وصنّفته صحيفة «نيويورك تايمز»، بين مصمّمي صناعة الدول في القرن الحادي والعشرين.
حالما تبدأ جولته من إيران الثورة، يكتشف جيلاً ثائراً على رجال الدين، وطامحاً للتواصل مع العالم الخارجي. يحكي عن حفلات المجون التي شهدها في إيران تحت الأرض، ويستنتج منها سعي الشباب إلى تصحيح صورة بلادهم في المرآة الأميركية. في بلاد آيات الله، تحاور كوهن مع الشباب، ليخرج مبشراً بتحولات مجتمعية، ستنتج هذه المرة من تكنولوجيا المعلومات والاتصال. لكنّ كوهن لا يكتفي بتعقّب المعطى السياسي، بل يتحرّى عن الازدواجية التي يعيشها الشباب الإيراني، بين الدين والحداثة. ويخلص إلى ملاحظة أساسيّة، وهي رغبة الجيل الجديد بالانعتاق من الأسر الديني، وتلميع صورة بلاده في الغرب.
بعد إيران، يحط كوهن رحاله في بيروت، ليتواصل مع شباب من منابع سياسية وطبقية مختلفة. يسجل جلسات جمعته بعناصر ادّعى أنّهم ينتمون إلى «حزب الله» الذي «تعدُّه واشنطن من أخطر الجماعات الإرهابية»، ولا يغيب عن باله تكرار الفكرة نفسها. هنا، يكتشف صورة مختلفة عن التي في مخيلته. من يتهمهم بالإرهاب، يرتادون «ماك دونالدز» والنوادي الليلية! يقر كوهن بأنّ حزب الله هو الذي حرّر الجنوب اللبناني من الاحتلال الإسرائيلي، لكنّه يتهمه «بدعم الاتجاه المتشدد لدى الشيعة»، فيما بدت له الطوائف الأخرى ـــــ تحديداً السنة والموارنة ـــــ «أكثر انفتاحاً». ويذكر هنا أنّ الشباب الذين قابلهم في مونو، يتخوفون من مشروع «حزب الله».
مفتاح أساسي قاد صاحب «الانحراف عن مسار التطرف» إلى ملء استماراته الاستطلاعية: «إجراء بحث عن شباب الشرق الأوسط، في محاولة لجعل العالم يفهم ما يعتقده هذا الجيل مهماً». ورغم أن نوعية الأسئلة بدت موجزة، إلّا أنّها كانت «ملغومة». هو يسأل مثلاً: «هل تعتبر «حزب الله» إرهابياً؟»، و«ماذا على الولايات المتحدة أن تفعل كي تكسب تأييد الشباب؟»
مثّلت سوريا المحطة الثالثة في رحلة كوهن الاستطلاعية. سؤالان توجه بهما إلى الشباب السوري: «هل تريدون الإصلاح؟ وما هو موقفكم من النظام؟»... بدا الجيل الجديد غير مهتم بالشأن السياسي، ربما من منطلق الخوف كما يلمح صاحب «مئة يوم من الصمت: أميركا والإبادة الجماعية في رواندا». تأخذه رحلته إلى مدينة حماه التي شهدت في أوائل الثمانينيات معركة ضارية بين الرئيس الراحل حافظ الأسد والإخوان المسلمين. ويربط الكاتب بين أحداث حماه و«خوف الطائفة السنية من النظام» على حدِّ تعبيره.
بعد إيران وسوريا ولبنان، وصل كوهن إلى إقليم كردستان العراقي الذي زاره عام 2005. توقّع الكاتب العثور على مواقع تدريب المتمردين، لكنّه اكتشف وجهاً آخر... عوضاً عن انتشار الأسلحة، لاحظ تكاثراً واضحاً لمقاهي الأنترنت والفضائيات. كما لفته توق الشباب الجامعي الكردي إلى بناء مجتمع مدني.
حالياً يعمل كوهن على تأليف كتاب «إمبراطوريّة العقل». ينكب على هذا العمل بالتعاون مع مدير «غوغل» التنفيذي إريك شميدت. وتدور فرضية البحث حول التحديات التي ستشكلها التكنولوجيا على الأنظمة الاستبدادية. قد سبق لكوهن وشميدت أن ألفا معاً كتاب «التشويش الرقمي: اتصال ونشر القوة»، وأكدا فيه أهمية التكنولوجيا الرقمية في نشر القيم الليبرالية وزعزعة الأنظمة التسلطية في العالم. طبعاً لا يرد في ذهنه أن تلك «القيم» التي يبشّر بها، هي الشكل الأخطر من أشكال الاستبداد، وهي أخطر بأضعاف من التوتاليتاريات الدينية والديكتاتوريات العربية المتهاوية.
ثمة حقائق معروفة سجلها الكاتب في «أبناء الجهاد»، لكنّه لم يستطع التفلت من نظرته الفوقيّة، نظرة الكاوبوي الرقمي، ومواقفه المسبقة من الصراع العربي ـــــ الاسرائيلي. هناك مفتاح معرفي يحمل دلالات كثيرة كشف عنه كوهن. فتكنولوجيا الاتصالات أتاحت للشباب العربي التعرف إلى العالم الخارجي، وها هم اليوم يستخدمون فايسبوك وتويتر لقيادة ثوراتهم على الأنظمة. تكنولوجيا هذا الصهيوني هي التي تحررنا إذاً؟ تذكّر رحلات كوهن إلى الشرق بزيارات المبشرين في زمن آخر، مع فارق بسيط طبعاً: لقد تغيّرت الرسالة من الدين إلى العالم الرقمي في خدمة الليبراليّة، دين الاستعمار الجديد...