«نقد العقل الإسلامي» عنوان إشكالي، يُحيل بالدرجة الأولى على مشروع المفكر الراحل الكبير محمد أركون، القائم على زعزعة المسكوت عنه في النصوص التأسيسية. ولعلّ صاحب «الفكر الأصولي واستحالة التأصيل»، يعدّ من العقلانيين العرب القلّة الذين كرّسوا جهدهم لمقارعة الدوغمائيات الدينية والتاريخية. في «الأنسنة والتأويل في فكر محمد أركون» (منشورات الاختلاف ـــــ الجزائر/ دار الأمان ـــــ الرباط)، يعرّف كيحل مصطفى القارئ على مناهج أركون المتنقّل بين الانثروبولوجيا، وعلم الألسنيات، والفيلولوجيا الاستشراقية، وغيرها بهدف تفكيك الذهنية الإسلامية القروسطية.
أركون ربيب الفكر الغربي الحديث اعتمد على المصادر الغربيّة، وتأثّر بروادها من الذين عالجوا الظاهرة الدينية أمثال المتخصص في فقه اللغة ريجيس بلاشير، والمستشرق الإنكليزي وليام مونتغمري واط، وتيودور نولدكه صاحب «تاريخ القرآن»، إضافةً إلى تأثّره بمدرسة الحوليات الفرنسية.
الأنسنة والتأويل، ركنان «يشقان» الفكر النقدي عند المفكر الجزائري الراحل. الركن الأول له تمثّلاته التاريخية في الثقافة العربية الإسلامية، التي شهدت النزعة الإنسانية في القرن الرابع الهجري... يجهد أركون في شرح أسباب «ازدهارها أثناء العصر الكلاسيكي» و«تراجعها أو انقراضها بعد ذلك». مفكّرون مثل الفارابي، وابن سينا، وابن رشد، والكندي، والرازي، والجاحظ، وأبو حيّان التوحيدي، مثّلوا النزعة الإنسانية العربية. وتميّزت فلسفتهم بالانفتاح على العلوم الأجنبية، وعقلنة الظواهر الدينية وشبه الدينية، وتنمية الحس النقدي، والفضول العلمي. ويعود تراجع الأنسنة العربية ـــــ كما يخلص أركون ـــــ «إلى رد الفعل السُّني على الدولة البويهية ذات المذهب الشيعي المعتدل والمتسامح».
للأنسنة أشكال عند أركون، منها الدينية والأدبية والفلسفية والكونية. لكنّه ينتصر للأنسنة الكونية، فهي تتخطى «الوحي»، وتجعل من الإنسان مقياساً لكل شيء. فهل أعلن أركون نهاية مسيرة الأديان، وبداية مسيرة الإنسان؟ طبعاً لا يتجه أركون إلى تبني هذه الفكرة التي عبّر عنها على نحو واضح نيتشه، بل يهدف إلى أنسنة النص، والعقل، والسياسي، والتاريخي في المقدّس والدنيوي. ثمّة عوائق تعرقل مسيرة الأنسنة، يحدّدها أركون بمصطلحات مثل الأرثوذوكسية، والسياج الدوغمائي، والتضامن بين الدولة والكتابة.
على إيقاع المسكوت عنه في النصوص التأسيسية ـــــ أي القرآن والسنّة النبوية والتراث الفقهي ـــــ وضع صاحب «الفكر الإسلامي، نقد واجتهاد» آليات للتأويل، من بينها المجاز. أمّا على مستوى العدة المفهومية، فنجده يوظِّف مفاهيم الأسطورة، والمتخيّل، والمعنى، وآثار المعنى، إضافةً إلى التمييز بين المطلق والنسبي. وهذا التمييز أدرجه في أخطر معاركه النقدية، مع النصّ المقدّس، إذ تكشف قراءاته العلميّة عن همٍّ معرفي واحد، هو «تجذير النص في التاريخ». وتبقى معاقلة النص بمثابة أمّ المعارك عند أركون، لكن ليس من منطلق نفي قدسية الوحي، بل من خلال التفريق بين «كلام الله في كليّته ونهائيته» و«كلام الله الموحى إلى البشر من خلال الأنبياء والرسل».
في هذا السياق، تتوافر في كتابات أركون ابتكارات جديدة، مثل الحدث القرآني والحدث الإسلامي، بغية التمييز «بين القرآن والإسلام أو بين الظاهرة القرآنية والظاهرة الإسلامية». الحدث الأول كما يفسره هاشم صالح، مُعرِّب كتب أركون وشارح أفكاره، «هو في جوهره حدث لغوي وثقافي يحتمل الكثير من التأويلات والدلالات». أمّا الحدث الثاني، «فهو جملة التجسيدات المادية للحدث القرآني».
مشروع الأنسنة عند أركون، يتخطّى النص ليصل إلى العقل والتاريخ والسياسة، ما يفضي إلى جدلية الترابط والتواصل بين الوحي والواقع. تؤكّد الأنسنة الأركونية خلاصتين: تاريخية الظاهرة القرآنية والإسلامية بمعناها السوسيولوجي، ونزع التقديس والتأبيد عن التاريخ الديني الرسمي. ويلفت كيحل مصطفى إلى أنّ أركون يصنّف «الإسلام» إلى إسلامات متعدِّدة، من بينها الإسلام الرسمي المرتبط بسلطة الدولة، الذي يصفي معارضيه بتهمه التحريف والتزييف. هناك أيضاً الإسلام الأرثوذكسي التقليدي الكلاسيكي، وهو أقنومي متعالٍ، إضافةً إلى إسلام الملاذ، وهو إسلام التعذر والتعلل والفشل، والإسلام الشعبي، أي إسلام العامة، والإسلام الشخصي الفردي، والإسلام السياسي المرتبط بالحركات ذات الخطاب الأصولي.
تأويل النصوص التأسيسية عند محمد أركون يرتكز على تعددية المناهج الغربية وأدواتها، وتطبيقها على بعض آيات القرآن أو على «جوانب مختلفة للظاهرة الدينية كالطقوس والجوانب الاجتماعية/ السياسية، والجوانب المعرفية الابستمية» كما يخلص مصطفى. يُعمل أركون عقله النقدي على قاعدة الحفر الأركيولوجي، لمعرفة «المسافة الموجودة» بين النص القرآني والنصوص التفسيرية، أي بين النص المؤسس والتراث الفقهي.
أطروحة «الأنسنة والتأويل في فكر محمد أركون» عمل أكاديمي دقيق، لم يكتفِ بعرض خلاصات المفكر الجزائري الراحل، ورصدها وتحليلها. فقد اتبع المؤلف أسلوباً منهجياً، ساعد القارئ غير المتخصص على الإطلالة، ولو لبرهة، على صاحب مشروع نقد العقل الإسلامي.