لا يريد حسان ملك أن يغادر دائرة الامتحانات الرسمية. خروج الرجل إلى التقاعد لن يعدّل جدول يومياته «في شي بخصني لازم كون حدّو». هكذا، يبرر حضوره كل صباح إلى وزارة التربية اللبنانية، لا لاحتساء القهوة مع زملائه فحسب، بل لمتابعة أدق التفاصيل في دائرة ترأسها 20 عاماً. ليس ذلك فقط. هذا الرجل راكم خبرات جعلت وزارة التربية تجدد التعاقد معه وتكلّفه مهمة الإشراف على الامتحانات الرسمية للجالية اللبنانية في قطر. بعيداً عن صخب الدائرة المنهمكة هذه الأيام بالاستحقاق الرسمي، يفضل ملك أن يكون اللقاء في منزله «هون منحكي ع رواق». يأخذ نفساً عميقاً من سيجارته قبل أن يبدأ برواية محطات طبعت مسيرة دامت 40 عاماً قضاها بالتساوي بين التعليم ورئاسة دائرة الامتحانات.
يُخبرك بداية بأنّه يتمنى لو تقاعد من ثانوية بعقلين الرسمية (الشوف) حيث «عشتُ أجمل أيام عمري». يأخذه الحنين إلى تلك الرحلة اليومية من بلدته كترمايا إلى الثانوية للتدريس في «لبنان الصغير حيث الطوائف تتعايش بعيداً عن التشويه الفكري والأخلاقي».
كانت التجربة الأولى للرجل في العمل بعد التخرّج من «جامعة بيروت العربية» ودخوله ملاك التعليم الثانوي الرسمي. وكانت الأحلام قابلة للتحقق. في الثانوية، أنجز ملك «أهم معرض مشاريع طلابية طبقتُ فيه التعليم الاستقرائي في مادة الجغرافيا يوم كان التلقين سيد الموقف». هنا أيضاً اخترع الأسطوانة الجغرافية التي تدخلك إلى بحر من المعلومات بمجرد توجيه السهم إلى بلد ما، وأعد أول كتاب توجيهي annal في التاريخ والجغرافيا لا يزال مرجع التلامذة حتى الوقت الحاضر.
ومع ذلك، يتحمس ملك أكثر للحديث عن السنوات العشرين الأخيرة التي أكسبته سلطة معنوية دخل معها كل بيت لبناني، فذيّل توقيعه الشهادات الرسمية عشرات السنين.
لم يأتِ أستاذ الجغرافيا إلى رئاسة دائرة الامتحانات بالمصادفة. لقد تمرّس بين عام 1971، تاريخ تعيينه في ملاك التعليم الثانوي الرسمي، وعام 1992 تاريخ ترؤسه الدائرة، في كل الأعمال المرافقة للامتحانات من مراقبة الغرف إلى المراقبة العامة ورئاسة المراكز، فالتصحيح والتدقيق ووضع الأسئلة. ويروي هنا كيف كان «يتمختر» كمراقب عام في مركز الامتحانات وهو لم يبلغ بعد الثالثة والعشرين من عمره.
«الامتحانات كان إلها هيبة قبل 1975»، يقول ملك مستعيداً أياماً خوالي حين كانت مجموعة من الأساتذة تنقل في الصباح الباكر أسئلة الامتحانات من بيروت إلى المناطق وتعيدها مساءً لتصحح في العاصمة. وإذا كانت الحرب قد وضعت أوزارها حين عيّن ملك رئيساً للدائرة، فإنّ انخراطه قبل ذلك في الأعمال اللوجستية الخاصة بالامتحانات، من صدور الأسئلة وحتى إعلان النتائج، جعله يعيش المعاناة بكل تفاصيلها.
هو نفسه لا يصدّق كيف «كنا نضع الأسئلة تحت القصف ثم ننقلها بواسطة مروحيّة عسكرية، أو طائرة الأمم المتحدة إلى الشمال أو الجنوب». في إحدى السنوات، سقطت قذيفة فتطايرت المسابقات الرسمية التي كان يصححها ملك ورفاقه في مدرسة الفرنسيسكان عند تقاطع المتحف، الملاصقة لنقطة نصب الراجمات، فسارعوا إلى لملمتها بمزيج من الخوف والحس بالمسؤولية. ثم ساءت الأوضاع بين عامي 1985 و1989، فتوقفت الامتحانات الرسمية واستبدلت وزارة التربية الشهادات بالإفادات.
عندما أصدر وزير التربية الراحل زكي مزبودي قراراً بتعيينه رئيساً للدائرة، تهيّب الرجل من هذا القرار، ولم ينفذه إلّا بعد 12 يوماً: «مُرعب أن تتسلّم مسؤولية هذه الدائرة بالذات». هكذا، رافق الحذر عمل السنوات الأولى للريّس الجديد «لأنو الغلطة بالامتحانات بتكلّف، والناس ما بترحم».
يتحدث حسان ملك عن الأحكام المسبقة التي كان يملكها الآخرون عنه... فـ«رئيس دائرة الامتحانات شخص يملك سلطة إنجاح التلميذ أو رسوبه. إذا احتاج التلميذ إلى نصف علامة، يعتقدون أنّ للرئيس الكلمة الفصل». هذه النظرة تنسحب أيضاً على وزراء التربية والمديرين العامين الذين تعاملوا معه. هؤلاء كانوا يأتون إلى الوزارة وفي جعبتهم أفكار مسبقة عن «حسان ملك اللي بكولش وبزوّر». من هنا غالباً ما تكون العلاقة في البداية فاترة مع الرجل الذي لم يكن يتأثر، كما يقول، «بوجهات نظر تتبدد في أشهر قليلة».
هل كان يتعرّض لضغوط؟ ينفي أن يكون قد تعرّض طوال مسيرته لأي ضغوط سياسية. الأمر لم يكن يتجاوز طلب السياسيين إعطاءهم نتائج الامتحانات قبل ربع ساعة من إعلانها لا أكثر ولا أقل. لكن ماذا عن تدخل هؤلاء في اختيار المراقبين والمصححين؟ يوضح أنّ «التدخل يكون عادة لدى المديرين العامين لا مع رئيس الدائرة، وإن كان من يُحشر اسمه في تشكيلة اللجان يعود ويصفي نفسه بنفسه، فالأستاذ غير الجيّد لا يستطيع أن يعيش في جو جيّد». في المقابل، لا يخفي ملك تعرضه خلال مسيرته لرشى مالية لم يكن يتحملها، على حد تعبيره، كأن يعرض عليه مبلغ صغير أو كبير من المال أو شقة في منطقة راقية.
لا يدّعي ملك أنّ الامتحانات خالية من أخطاء. هي في الغالب متعلقة بنقل العلامة، وخصوصاً «أننا لا نكتب عادة العلامة كما هي بل نُسبقها بصفر». ويستدرك أنّ هذه الحالات نادرة، ما دامت المسابقات قابلة للمراجعة. ملك نفسه يقلّب السجلات ويراجعها من دون أن يُطلب منه ذلك، ولا سيما عندما يعثر على تفاوت كبير في العلامات في مواد تشبه بعضها كالرياضيات والفيزياء مثلاً. لكنّه يضع ثقته الكاملة في فريق عمل مؤلف من 20 ألف شخص يعملون في ورشة الامتحانات، «فبعض الأخطاء الصغيرة لا تنسف مناقبية الأستاذ المصحح وتاريخه». يستفزه ما يسميه الحديث «الظالم» عن الغش «يرون واحداً في المئة. ويتغاضون عن الـ99% من التعب والكد
والجهد».
أخيراً، يرى الرئيس السابق لدائرة الامتحانات الرسميّة، أن للصحافة دوراً في حماية الامتحانات الرسمية: «هناك استحالة أن تأتي الأسئلة من خارج المنهج المقرر مهما صَعبت، وبالتالي من الظلم أن يلجأ بعض الصحافيين إلى نقل رد فعل تلميذ أو تلميذين خارجين من قاعة الامتحانات، كي يخرجوا بمانشيت جريدة في اليوم الثاني: «مجزرة في الامتحانات الرسمية». يستفزه القول إنّ مستوى الشهادة تراجع بدليل ارتفاع نسب النجاح، ويبدو مقتنعاً بأنّ سمعتها بخير ومعترف بها في كل دول العالم. هكذا هو حسان ملك، غيرته على هذا الجانب الحيوي من النظام التربوي تبقى كاملة، كأنّه يتحدّث عن جزء من نفسه.



5 تواريخ


1947
الولادة في كترمايا
(قضاء الشوف، لبنان)

1971
التعيين في ملاك التعليم
الثانوي الرسمي اللبنانية

1973
اخترع الأسطوانة الجغرافية

1992
عيّن رئيساً لدائرة
الامتحانات الرسمية

2011
التقاعد بعد عمر من العطاء للنظام
التربوي اللبناني