«عند مرقد السيدة» (الغاوون) أربع مسرحيات كتبها وأخرجها حازم كمال الدين، وعرضت في مدينتي أنتويرب البلجيكية، وأمستردام الهولندية، خلال السنوات الماضية. حملت العروض على الخشبة، طرحاً مختلفاً تماماً عما قد نشاهده في المسرح التقليدي... فهي نصوص قابلة للعرض في أي فضاء، سواء على الخشبة أو خارجها، وتستدرج إليها المتفرجين؛ إذ يتحوّلون، بين لحظة وأخرى، إلى ممثلين.في عمله هذا، يستكمل كمال الدين مشروعاً بدأه قبل عقدين، هو إشكالية التغريب بين روح الإنسان وجسده. عمل المسرحي العراقي ـــ البلجيكي خلال مسيرته، على تحرير المسرح من الشعارات، وإكسابه طاقة شفاهية أشبه بالكلمات غير المدوّنة للحضارات الماضية. من هنا، اختار في كتابه أن يسلّط الضوء على القص الشفاهي العربي كأسلوب. لكنّ محتوى القص في المسرحيّة الأولى «ساعات الصفر»، يتنكّر للطرق القديمة، ولما تحمله من نوستالجيا حيناً، وطابع إيكزوتيكي أحياناً. وتطفو على سطح السرد مكونات عدة منها العنف، والقسوة، والطابع السوريالي للحكاية الشعبية وخلفياتها الميثولوجية.
في الخلاصة، يقدّم كمال الدين تسع حكايات عن الجن، ويعالجها بأسلوب نقدي. يقف على حدة بين الدراماتورجي الغربية، والمظاهر المسرحية العربية. تعتمد الحكايات التي يكتبها الشاعرية أسلوباً للعرض، بيد أنّ ما يختفي خلف الجمال والغنائية، هو العنف والقسوة.
سفيان رجل ذو رسالة غامضة، يتلقّى تعاليم رسالته من طريق شخصية ملتبسة: الراعي. وفي إطار الرسالة الغامضة، ينفِّذ البطل مختلف أنواع المهمات، حتى العجائبية منها، وينجح في ذلك دائماً. يجيد سفيان عمله، فهو ضليع بأسرار الصحراء، وخبير بالتلاعب بكلّ شيء، ولا يرمش له جفن حتى لو وجب عليه أن يعبر فوق بحر من الجثث... لكن مهمته الغامضة الجديدة، ستعترضها كائنات جهنميّة.
من خلال التركيز النقدي على الحكاية العربية في سياقها الثقافي، يرمي كمال الدين حجراً في بحيرة التهليل الغربي للغرابة، كمرجعية لفهم استشراقي للحكايات الشعبيّة. يسعى إلى فضح المراجع المعرفية الغربية، المستندة إلى تسطيح المعرفة، وأدلجتها وتحويلها إلى موضة، أو إخضاعها لمتطلبات السياسة والإعلام... لهذا، تنجو نصوص كمال الدين المسرحية من الغرق في أحلام «ألف ليلة وليلة». على النقيض من ذلك، نجد أنّها تركّز على علاقة الإنسان بكوابيسه.
في نصّ«شجرة الأرز» مثلاً، تنطلق شهرزاد في رحلة البحث عن القلب المقدس. الحكواتية الشهيرة هجرت سرير شهريار، وانطلقت في سعي مضنٍ خلف قلب الكبش الذي ذبحته إنقاذاً لحبيبها... المتنبي. في نهاية الرحلة، نكتشف أنّ القلب المقدّس إنما هو شهرزاد ذاتها. إنّها رحلة تستنطق الجبال، والأنهار، والبحار، والآبار، والتواريخ الماضية والحاضرة، وهي مليئة بالخطايا، وتتطلب اجتراح معجزات كثيرة. لكن حين تكتشف شهرزاد أنّها هي القلب المقدس، تكون قد فقدت قداستها واستحالت حجراً.
في مسرحية «مرقد السيدة»، يتطرق كمال الدين إلى علاقة الشرق والغرب، من خلال قصة امرأة مغتربة تعيش في أوروبا، أضاعت صورة أمّها التي تمثّل آخر ذكرى باقية لها عن الوطن. تلجأ المرأة إلى صديقة أوروبية، لتحكي لها قصة ضياع الصورة. هنا تشتعل في السيدتين جذوة الكلام، فتسردان الحكايا بوضوح، رغم الارتجال المتواصل واللغات المختلفة. ثمّة اختلاط للحكايات يدفعنا إلى الإدراك أنّ المرأتين تتحدثان عن همّ واحد.
قصة واحدة لبطلتين هما صحافية أوروبية وكاتبة عراقية، تتقاسمان زاداً واحداً هو سيدة الوركاء، منحوتة الوجه السومرية الشهيرة. تعمل المرأتان على تفكيك وتركيب تاريخ منسي لبلاد تنقرض أو تحتضر... يقول كمال الدين على لسان الصحافية الأوروبية: «العالم ليس مبنياً على خطأ. أنتِ على خطأ. يجب عليك أن تسايري العالم. يجب أن تندمجي. إذا قاومت العالم، تتعرضين للنفي، ولن تجدي عملاً، لن تجدي حبيباً، عليك أن تتماشي مع القواعد والشروط والأعراف والتقاليد. التقاليد العريقة ليست خاطئة. أنت على خطأ. القواعد الحياتية موجودة، لكي تضمن لنا التقدم. وأنت عليك أن تفككي نفسك، وتعيدي تركيب نفسك. يجب أن تتعاملي بنسبية مع الأشياء. ابحثي عن القرابات مع الأشياء، ولا تبقي على الهامش. اتركي الهامشية وتقدمي تحت الضياء الناصعة».
يبحث نص كمال الدين في ماضي مجتمع يرزح تحت مستوى عالٍ من التوتر، وفي حاضره أيضاً. يبحث في إشكالية الذاكرة الجمعية، واستغلاق البشرية في حوار الحضارات. مسرح يأتي كالصرخة أو كالدعابة. نصّ «الموناليزا البابلية» هو قصة صراع بين جلجامش وسيدة الوركاء. نقرأ أن رأس الإلهة البابلية سُرق من المتحف فصار يرتحل في كل مكان، ويرى كل أنواع الأحلام. هذه السيدة تنتمي إلى كل العصور، وتحتوي كل الألوان، وقابلة للتحول من فتاة جميلة إلى عجوز شمطاء، ومن ثم إلى تمثال في متحف... حتى جلجامش، أخوها وعدوها وغريمها لا يعرف بالضبط منذ متى ولدت تلك المرأة المعجزة.