بين مدينتين أو أكثر يكتب الشاعر بشير البكر سيرته العاطفيّة، في ديوانه «ما بعد باريس» (دار النهضة). يقتفي في نصوص تلقائية، أثر الأمكنة التي حضرت فيها الحبيبة، وحوّلتها من مدن للمنفى والعزلة إلى احتمالات مفتوحة على الشرط الإنساني بتنويعاته المتناقضة. لم تعد بيروت وباريس تُشعران بشير البكر بالوحدة والغربة. صارتا أكثر انفتاحاً على داخله، بما يحوي هذا الداخل من انفعالات ومشاعر، ظهرت بوضوح في نصوص الديوان التي تبدو في ظاهرها مخاطبات للحبيبة، لكنها في العمق تذهب أبعد من ذلك. حين يحتفي النص بالحبيبة، ويلاحق طيفها في المقاهي والحانات والشوارع، يكون أيضاً في سياق البحث عن كاتبه، ونبش ما علق في ذاكرته من مشاهدات ولحظات وأحداث. «باريس بعد عدة أشهر/ سحب سوداء ومطر/ أعود إلى البيت فيهرب النوم/ كما لو سكنته الأرواح». يبدأ الديوان بقصيدة طويلة، تحتفي بمريم «كما لم يسمِّها أحد»، بأسلوب انسيابي يخفف من الغنائية، ولا يكترث لسياقات المعنى بما تفترضه هذه السياقات من تماسك وتصعيد. الشاعر طوال القصيدة مشغول باستعارة التوصيفات لحبيبته، وخلق مناخات تساعده في فهم الحالة الشعورية التي أحدثها الحب في داخله: «في ذلك الليل تهيأت لشرف تقبيل يدكِ، لكني عدت خاسراً حتى النهاية، كما لو أن القمر نسيني في الطريق، وأنا أتبع نجمة البياض، أعد هزائمي واحدة واحدة». «على سبيل النوستالجيا»، عنوان الجزء الثاني من الديوان حيث تستمر القصائد بفيضها الدائم خارج نفسها. وهذه نوعية من النصوص لا تكتفي بالموضوعات التي صنعت منها، بل تفيض عن نفسها، كأنّها لوحات تشكيلية، تندلق بألوانها وأصباغها خارج الإطار الذي يحيطها. لا يهتمّ البكر بالكليشيهات الشكلية للقصيدة الحديثة، بل يكتب قصيدة وفية لمشاعر كاتبها، أكثر مما هي وفية لشكلها وأسلوبها. هذا ما يبرر ابتعاده عن الرؤى الكلية والوجودية في النصوص، مفضلاً الذهاب بالقصيدة إلى داخله، إذ يريدها أن تلحظ ما يحدث في هذا الداخل من انفعالات لحظة بلحظة.هذا التركيب الخاص لقصيدة الشاعر ينسحب على مفرداته، إذ استطاع أن يصنع معجمه الخاص المؤلّف من خليط غني، يمزج الحداثة بالكلاسيكية، والتاريخي باليومي، والواقعي بالبلاغي. يقول في إحدى القصائد: «أرسل دخان سيكارتي/ من خلف زجاج المقهى/ مثلما في لحظة فقدان أخير لامرأة/ رحلت كثيراً/ وفي كل مرة/ لا تضع نقطة على سطر الغياب». وفي قصيدة آخرى «مثل سوار في معصم مومياء فرعونية/ لم تغمض عينيها بعد».
لعلّ هذه المرونة اللغوية، إضافةً إلى تخفّف القصائد من التصورات الكبرى، جعلت الشاعر أكثر قدرة على اللعب واللهو داخل قصيدته، بحيث استطاع أن يُدخل أحداثاً عادية تحصل مع أي حبيبين إلى القصيدة، من دون أن يؤثِّر ذلك على المستوى الفني للنص: «انتظرتك في المقهى/ نسيت أنَّك/ لا تشربين القهوة/ جربت القهوة بالحليب/ مرة واحدة فقط/ مرة واحدة/ ربما وجدتك هنا».
إلى «ما بعد باريس» يذهب بشير البكر، ليتعرف إلى ذاته، بتقلباتها وانفعالاتها وحالاتها الشعورية، من خلال تأثير الحبيبة على الأمكنة وتداخل بعضها بالبعض الآخر.