وجد الفتى العُماني نفسه فجأة في القاهرة لحظة رحيل جمال عبد الناصر. في الطريق إلى تلك البلاد البعيدة، ستلازمه صورة أمه، وهي تقف أمام البئر في قريته سرور، وصورة الأب في المطار. هكذا يفتتح سيف الرحبي سيرته المضطربة «القاهرة أو زمن البدايات»(«النادي الثقافي» ـــ مسقط/ «دار الفرقد» ـــ دمشق)، مأخوذاً بسحر تلك المدينة الصاخبة التي ستتكشف عن وقائع وأحلام وخيبات.السرد السيروي هنا، يتمازج بذكريات تتقاطع مع مشهدية لاحقة للمدينة، ترمّم الصورة الأولى عبر شخصيات وأمكنة ومواقف. بين حي الدقي وحي المهندسين، تتكون ملامح الحياة الجديدة، على مهل، وسط صخب الطلبة العرب، وتفتّحات الحب الأولى، والانخراط في قراءة الكتب الماركسية، بوصفها يقيناً لاهوتياً لتطلّعات ثورية، صبغت توجهات تلك الحقبة العاصفة. إعادة تدوين «نص الإقامة القاهرية» اليوم، أتى تحت زخم طغيان عاطفي، رغم تغيّر الأحوال وفساد الزمان عن مصائر بشر وأمكنة، «قبل أن يجرّها الحوذي الأعمى إلى هاوية الظلام والنسيان».
مطلع السبعينيات إذاً، هو العتبة الأولى للترحال. ذلك أنّ صاحب «منازل الخطوات الأولى»، لم يعرف الاستقرار، منذ أن وطئت قدماه أرض الكنانة، في تجوال قلق، بين بلدان عدة. لكنّ القاهرة «اليسارية» حينذاك، وضعته في قلب السجالات الساخنة، تتناهبه صور غيفارا، وماركس، وماو، والجنازة الأسطورية للزعيم، لتتحطم لاحقاً «السفن والأحلام قبل أن تبحر نحو البعيد». وسيكتشف باكراً أنّ ركام النظريات المتلاطمة، ما هو إلا «غرق في مياه التجريد، وخدر القراءات المبسّطة»، بغياب الوقائع على الأرض.
بعد ثلاثة عقود، سيعود سيف الرحبي إلى شارع الزهراء في المهندسين، الشارع الذي قطنه أول مرة، في محاولة لاستعادة فردوسه المفقود. يطارده طيف سوزان، الحب الأول في حياته، إلى مقابلته شيخ الأزهر برفقة شخص ضرير، كي يساعده على إيجاد مسكن، بعدما طرده شريكه في السكن، إثر انقطاع المساعدة الدراسية. حين سأله الشيخ «أين تسكن؟»، أجابه «في اللامكان يا فضيلة الإمام». لعلّ هذه العبارة المرتجلة، سترافق حياته إلى اليوم، فهو يكتب «منذ تلك الفترة، وهذا «اللامكان» يرتسم كعلامة لوعي جيل ممزّق، يلاحقني كقدر ومتاهة».
لن نجد في هذه السيرة خطاً أفقياً، يرسم مسار هذا الشاعر الجوّال. فكلّما أصاب ذاكرته العطب، يقوم بترميمها شعرياً، أو يلجأ إلى يوميات كتبها عن زيارة أخيرة إلى القاهرة. يوميات مزدحمة بأسماء أمكنة وشخصيات ثقافية، تنتهي بحادثة مقتل الممثلة المسرحية فانيا الكسندريان على يد مهووس ديني. في فصل لاحق، يدخل صاحب «مقبرة السلالة» في متاهة أخرى، محاولاً تفسير معنى المنفى، وسطوة الأمكنة الأولى، فلا يجد نجماً يهتدي به، بل «بحراً مضطرباً وظلاماً عميقاً، وتيهاً في غابة الكلمات».
هذه الرحلة السيزيفية، أوصلته ــــ كما يقول ــــ إلى «اكتشاف خرائب الروح وخرائب طفولة الكائن والمكان»، في خريطة مشحونة بالمتناقضات، يسمّيها «بستان الداخل» إذ تتجاور «شفافية اليأس وقوة انكسار الأمل». هكذا يتبخّر المكان إلى مجرد فضاء للكتابة بوصفها وطناً موازياً، لإنقاذ الروح الهائمة، «وسط جلبة الإعصار والهشيم».
سيتوقف مليّاً في محطته القاهرية، مع أربع شخصيات تركت وشماً في روحه. يحضر طيف أمل دنقل أولاً، في رحلته المضنية من الصعيد الأعلى إلى القاهرة، مؤكداً ثراء تجربته وخصوصيتها في المشهد الشعري العربي، فالشاعر الجنوبي «دفع بالعبارة الشعريّة العربيّة ذات الهاجس التاريخي والميثولوجي إلى مشارف جديدة». ويستعيد كذلك سيرة شاعر آخر، خطفه الموت مبكراً (1975)، هو علي قنديل «أكثرهم شاعرية وتدميراً»، وذلك عبر مجموعة شعرية واحدة، حملت عنوان «كائنات علي قنديل الطالعة». ثم تهطل فجأة صورة غالب هلسا الذي عاش فترة طويلة من حياته في القاهرة، قبل أن يُرحَّل عنها قسراً في عهد السادات. أما أروى صالح، الكاتبة التي قضت انتحاراً، فيخصها بقصيدة ، فـ«الجسد يذهب مع أسرار جماله، ويتركنا في الحيرة».
ينهي صاحب «يد في آخر العالم» سيرته القاهرية بعبارة من دانتيه، تمثّل خلاصة ترحاله: «اخلعوا كل رجاء فأنتم على أبواب الجحيم؟»، ويضيف: «لكننا في قلب الجحيم حقاً، في قلب الربع الخالي، حيث يضيع الدليل، ولا يتبقّى من القافلة إلا كلبها الجريح، ينبح في عتم الأبدية».