باريس | تعرض القناة الثقافية الفرنسية ـــــ الألمانية «آرتي» مساء اليوم شريطاً وثائقياً بعنوان «كشّافة المهدي» (إنتاج «ليدي بيردز»). هذا الفيلم الذي شارك المخرج الفرنسي برونو أولمر في تأليفه مع نائب رئيس تحرير مجلة «لوموند دبلوماتيك» المفكر اليساري الفرنسي ألن غريش، يسلط نظرة غير مسبوقة على «حزب الله» من منظور الإعلام الغربي. «الحزب» لا يُختزل هنا في بعده العسكري المرتبط بالمقاومة فقط، بل يسعى الفيلم إلى الإحاطة بالمنظومة الاجتماعية المتعددة الأبعاد المرتبطة به، مسلطاً الضوء من الداخل على النشاطات الخيرية والتربوية المختلفة التي يتكفل بها.
يتتبع الفيلم مسارات ثلاث شخصيات (عباس، وحسين ونور) من شباب «كشافة المهدي» التابعة لـ«حزب الله»، راصداً كيف يزاوج هذا التنظيم الشبابي بين القيم الإنسانية للكشافة، كما حدّدها المؤسس العالمي للحركة لورد روبرت بايدن باول، وبين التركيبة الاجتماعية والطائفية للبنان. يطرح الشريط في البداية إشكالية مثيرة: هل «كشافة المهدي» مجرد تنظيم كشفي كأي تنظيم تربوي من هذا النوع، ينتمي إلى حركة الكشافة العالمية (28 مليون كشّاف في 160 دولة)؟ أم له خصوصيات تنظيمية وإيديولوجية مغايرة بحكم ارتباطه بـ«حزب الله» وبالمقاومة الإسلامية، وأيضاً بحكم تركيبة لبنان المتعددة الطوائف؟
لمعالجة هذه الإشكالية، اختار المخرج منحى مينمالياً اختزل التعليق إلى أقصى الحدود، لينأى بعمله عن أي خطابية أو أفكار مسبقة، مطلقاً العنان لكاميراه كي تتجوّل بحرية في كواليس «حزب الله» وكشافته. والنتيجة كما تعترف منتجة الفيلم هيلين بادنتر: «عمل يثير من الأسئلة أكثر مما يقدّم من إجابات»!
من أهم نقاط القوة في الفيلم جماليات صورته، وخصوصاً على صعيد المناظر الخارجية الساحرة المحمّلة بعبق الجنوب اللبناني. لكنه على صعيد النظرة الإخراجية، سرعان ما يقع في فخ النظرة الغربية المنبهرة بالواقع المغاير الذي يكتشفه المخرج على الأرض، ويختلف جذرياً عن الصورة النمطية المتداولة في الإعلام الغربي عن «حزب الله». وبالتالي لا يلبث الفيلم أن يتحوّل من عمل عن «كشافة المهدي» إلى فيلم عن «حزب الله» من الداخل!
هكذا يُفاجأ المشاهد الأوروبي، مثلاً، بصورة مغايرة لما هو متداول في الإعلام الغربي عن زعيم «حزب الله» حسن نصر الله الذي عادة ما يُصوَّر زعيماً متطرفاً وراديكالياً، وإذا به يظهر في الفيلم ملقياً خطابه الشهير حين أعلن تقبّله لنتائج الانتخابات النيابية التي جاءت في مصلحة خصومه عام 2009، قائلاً إن الحزب يتقبل تلك النتائج بكل روح رياضية وديموقراطية، وإن الفريق الخصم يحق له تأليف حكومة، لأنه أحرز الأغلبية.
الصورة النمطية الغربية عن «حزب الله» تخلخلها أيضاً العديد من الوقائع التي يرصدها الفيلم في تتبعه لنشاطات «كشافة المهدي». مثلاً، ترافق الكاميرا عباس وحسين ورفاقهما خلال احتفالات عاشوراء، وإذا بالمخرج يُفاجأ بلفتة متوقعة، حيث تقوم فرقة الكشافة بزيارة إحدى الكنائس لتقديم ورود بيضاء، رمز التآخي، للراهبات؛ إذ إنّ ذكرى عاشوراء تلك السنة تزامنت مع عيد الميلاد! العديد من هذه المبادرات التي تتجاوز الحواجز والحدود الطائفية تتكرر أيضاً خلال رمضان. يصوّر الفيلم كيف تشمل النشاطات الخيرية لـ«كشافة المهدي» مساعدة الصائمين المعوزين، سُنّة وشيعة. لكن الكثير من الأسئلة التي يطرحها الفيلم تبقى عالقة: ماذا عن التجنيد الإيديولوجي الذي تمارسه هذه الكشافة على أطفال في عمر البراءة؟ ما هي صلاتها بالمقاومة وبالجناح العسكري للحزب؟ وكيف توفّق شبيبة «حزب الله» بين الانتماء الشيعي القوي المتجذر في هذه الكشافة، وخطابها الوطني الذي يتطلع إلى تجاوز مطبات الاصطفاف الطائفي؟
بدلاً من أن يسائل «أبطاله الثلاثة» بخصوص هذه القضايا الإشكالية، اختار المخرج أن يفسح لهم المجال في أحاديث مطولة تدور في ما بينهم، وتتخذ طابع مونولوغات أحادية الاتجاه. بذلك، تحولت الكاميرا إلى مجرد شاهد عيان، بدلاً من أن تكون أداة تحقيق وبحث.
لكن كل ذلك لا ينتقص من قيمة هذا الفيلم الذي يقدّم عن «حزب الله» وشبيبته صورة مغايرة جذرياً لما هو متداول في الغرب. يكفي أن الفيلم يصوّر من الداخل، مُظهراً أنّ المقاومة ليست ضرباً من البذخ الفكري أو التطرف الديني، بل هي حتمية جيوسياسية متجذرة... ليس في صفوف «حزب الله» أو الطائفة الشيعية فحسب، بل في كامل النسيج الاجتماعي اللبناني.

«كشّافة المهدي»: منتصف ليل اليوم (بتوقيت بيروت) على arte



«قول انشاالله»

من هو برونو أولمر؟ سؤال بديهي قد يتبادر إلى كثيرين بعد مشاهدة وثائقي «كشافة المهدي». لكن نظرة سريعة إلى سيرة هذا المخرج الفرنسي الذي ولد في المغرب عام 1959 قد توضح الصورة. بدأ أولمر تصوير الوثائقيات قبل أكثر من عشر سنوات، وهو الطبيب الذي أثارت حشريته تركيبة المجتمعات الغربية والعربية. ولعل شريطه الأشهر هو welcome Europa (2008) الذي صوّر قصة ثمانية شباب أكراد ورومانيين، تحوّلت أوروبا بالنسبة إليهم من حلم إلى كابوس، بعدما حاولوا اللجوء إلى إحدى عواصمها هاربين من الفقر. كذلك تطرّق صاحب «كشافة المهدي» إلى موضوع المهاجرين المغربيين غير الشرعيين في فرنسا ضمن وثائقي بعنوان Casa Marseille Inch'Allah (2002).