رحل المايسترو بصمت. حزم أمتعته وأمسك عصاه التي كان يقود بها الأوركسترا، وذهب مبتسماً كعادته، بعد صراع مرير مع المرض. تأخّرنا في ردّ الجميل إليه. حتّى الاعتراف بأهمّيته جاء متأخّراً على مستوى النقد. وليد غلمية فرض اسمه في المشهد الموسيقي اللبناني والعربي، وأسّس تيّاراً موسيقياً جديداً فتح الباب أمام نقاش طويل حول العلاقة الشائكة بين التدوين والإرتجال في الموسيقى العربية. مذ ترأس «المعهد الوطني العالي للموسيقى»، اشتغل على تطوير المناهج الأكاديمية للآلات الشرقية (العود، والقانون، والطبلة...)، وأنشأ فروعاً للكونسرفتوار في العديد من المناطق اللبنانية، كأنّما ليخترق الأسلاك والحواجز التي قطّعت أوصال لبنان خلال الحرب الأهلية.
«الموسيقى للجميع» قال مرّةً إبن مرجعيون، مكرّساً حقّ أبناء الطبقات الشعبية في التضلّع من الموسيقى عزفاً وغناءً وتأليفاً. هو الذي أسس مع رميو لحّود أول مسرح موسيقي في لبنان مطلع السبعينيات («فينيسيا»)، ولعب دوراً على مستوى المهرجانات العريقة من «بيبلوس» و«بعلبك». هبة القوّاس التي عرفته عن كثب، تقول: «كان شاهداً على العصر، وسبّاقاً إلى كتابة أعمال سمفونية متكاملة تراعي خصوصية الموسيقى الشرقية». وتواصل المغنّية الأوبرالية والمؤلّفة الموسيقية المعروفة: «قبله، كانت ثمّة محاولات خجولة في التأليف السمفوني، وقد كان معظمها يحاكي الأسلوب الغربي في التأليف. أمّا غلمية، فهو أهمّ مؤلّف موسيقي في هذا العصر. نقّب في الموسيقى العراقية، والليبية، وموسيقى بلاد الشام، وزاوج بين التراث والحداثة، وهو ما يتبدّى في سمفونية «المواكب» و«المتنبّي» و«اليرموك»».
أمّا الفنّان أسامة الرحباني، فيعتبر أنّ رحيل غلمية خسارة كبيرة: «كان إداريّاً وديناميكيّاً، يُحسب له سعيه الدؤوب إلى تأسيس «الأوركسترا الفلهارمونية اللبنانية» التي تتمتّع بمستوى جيّد، ليس فقط على المستوى المحلّي، بل على مستوى المنطقة. الأمسيات المجّانية التي تحييها الأوركسترا الغربية والشرقية تنعش المشهد الموسيقي اللبناني الغارق في الابتذال».
وفي وقت أصدر وزير الثقافة اللبناني بياناً ينعي فيه الراحل، كان ردّ فعل أندريه الحاج، قائد الأوركسترا الشرق ــــ عربية وعميد آلة العود في الكونسرفتوار، كالآتي: «الصدمة كبيرة. غلمية شخصية لن تتكرّر. بدماثته وذكائه وحساسيّته ومثابرته، حقّق ما لا يمكن لأحد أن يحقّقه خلال فترة قصيرة. الكلمات تعجز عن وصف وطأة هذا الغياب».

تقبل التعازي قبل الدفن اليوم وغداً وبعده في صالون «كنيسة مار نقولا للروم الأرثوذكس» في الأشرفية، على أن يقام الجناز يوم السبت 11 حزيران (يونيو) في الكنيسة ويوارى في الثرى في مدافن العائلة في جديدة مرجعيون.