نزار مروة مثقف لبناني متعدّد ميادين المعرفة، لكنه ناقد موسيقي في الدرجة الأولى. لعلَّه يكاد يكون من أهم النقَّاد الموسيقيين العرب المعاصرين. ورغم أنّ كتاباته في النقد الموسيقي كانت قليلة، فقد جعلت علاقته النقدية بالموسيقيين اللبنانيين حضوره قوياً في عالم الموسيقى. عزَّز موقعه في ميدان النقد الموسيقي اهتمامه بالمجالات الثقافية الأخرى. مارس النقد الفني في المسرح والسينما والأدب والفن التشكيلي. تعود كتاباته الأولى في النقد الموسيقي إلى أوائل الخمسينيات في مجلة «الثقافة الوطنية»، حيث كان له باب خاص بالموسيقى تاريخاً ونقداً.
ثم انتقل إلى منابر إعلامية مختلفة، لا سيما جريدتي «النداء» و«الأخبار»، وقد أشرف تباعاً على الصفحة الثقافية في كلّ منهما. ثم أصبح في السنوات الأخيرة من عمره مدير التحرير في مجلة «الطريق». وكان يقدِّم في إذاعتي «صوت الوطن» و«صوت الشعب» برامج موسيقية تعرِّف المستمع إلى تاريخ الموسيقى العربية والعالمية ورموزها الكبيرة.
وُلد نزار في دمشق عام 1931 لأبوين لبنانيين. والده هو المفكِّر اللبناني الشهيد حسين مروة، صاحب الكتاب التراثي الكبير «النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية»، وصاحب العديد من الكتب المختصة بالتراث العربي وكتب النقد الأدبي. عاش نزار شبابه الأول في العراق. في 1949 عاد مع أهله إلى لبنان حاملاً الشهادة الثانوية، والتحق بالجامعة الأميركية حيث تخصَّص بالرياضيات. تابع نشاطه على امتداد حياته في ميادين ثقافية مختلفة إلى أن توفي عام 1992، مخلّفاً لنا تراثاً مميزاً من النقد الموسيقي، والنقد الأدبي والفني.
تعرفت إلى نزار قبل أن ألتقي به. كنت في لبنان وكان هو في العراق. ثم التقينا لفترات قصيرة في أيام الشباب الأول عندما كان والده الشيخ حسين يأتي بعمامة رجل الدين وزيِّه مع العائلة، لقضاء عطلة الصيف بين قريتنا حاريص وقريتهم حداثا الجارتين الحميمتين من قرى جبل عامل في جنوب لبنان. لكن المعرفة الحقيقية لكل منّا بالآخر بدأت في مدينة الكاظمية في العراق، أواخر 1947 عندما أرسلني والدي لأتابع دراستي الثانوية برعاية ابن عمه حسين مروة الذي كان قد خلع منذ الأربعينيات زي رجل الدين وعمامة الشيخ ليصبح أستاذاً في الفلسفة والأدب في مدارس بغداد، وليصبح كاتباً معروفاً تتسابق الصحف إلى التعاقد معه.
أعترف بأنني قررت منذ اللحظة الأولى للقائي بنزار ألّا أتعلَّم فقط من والد نزار بل منه، رغم أنني كنت أكبره بعامين. ومصدر ذلك القرار أنّني اكتشفت أن ما كوَّنته من ثقافة خلال المرحلة المتوسطة من دراستي في لبنان لم يكن في مستوى ما كانت عليه ثقافة نزار التي كوَّنها في بيت أبيه. وكان بيت أبي نزار ملتقى المثقفين في كل ميادين الثقافة. وهكذا بدأت معه سلوك طريق خاص إلى الحياة. اخترنا الثقافة مدخلاً لتكوين شخصيتينا وتعميق وعينا بالأشياء وبالأحداث. رأيناها وسيلة لتحقيق أحلامنا ومطامحنا.
كان نزار ابن أبيه في سعة الثقافة، وفي شكل التعامل مع مصادرها القديمة والحديثة. لكنه كان يتميَّز عن أبيه بامتلاكه اللغة الإنكليزية. وكان وهو طالب الرياضيات صديقاً للموسيقى منذ شبابه الباكر. وقد أدهشني أن يكون نزار بدأ يدرس الموسيقى وحده. كانت موهبته مرشده إلى الموسيقى، ليس إلى تاريخها وحسب، ولا إلى الآثار الكلاسيكية العظيمة لكبار الموسيقيين. كان يدرس إلى جانب ذلك النوتة. وكان يمارس العزف على النَّاي والفلوت بالتعلُّم الذاتي. وكان أحب الموسيقيين الكلاسيكيين إليه موزار. لكن حبه له لم يغيِّب قط اهتمامه بكبار الموسيقيين الكلاسيكيين وفي مقدمهم بتهوفن.
كان نزار انطوائياً في طبعه. لكنه حين يقرر الدخول في مجتمع ما، كان يصبح بسرعة نجماً متألقاً بالنظر لما كان يتمتع به من ظُرف وسعة ثقافة ومرونة في التحول من حال إلى حال آخر مختلفة.
كنت أتابع مع نزار بعض اللقاءات مع مؤلفين موسيقيين ومخرجين مسرحيين. ومعه تعرَّفت إلى عاصي ومنصور الرحباني. ومن خلاله أعدت علاقة قديمة مع المطرب نصري شمس الدين الذي كان في أواسط الأربعينات يدرِّس الموسيقى في الكلية الجعفرية في صور، عندما كنت أتابع دراستي فيها. وكثيراً ما كنت أحضر مع نزار مسرحيات الرحابنة. وكنا كلما خرجنا من عرض لإحدى المسرحيات، ندخل في ما بيننا أو مع آخرين في نقاش فني وأدبي وسياسي يتناول تلك المسرحية بأبعادها. وكان نزار شديد التقدير للرحابنة. وكانوا يحبونه ويثقون بآرائه ويستفيدون من ملاحظاته النقدية. وكثيراً ما كانوا يجرون بعض التعديلات في أعمالهم استناداً إلى آرائه النقدية.
لكنه كعادته كان شديد الحذر إزاء إطلاق الأحكام. وكانت لديه، مع تقديره لفن الرحابنة، ملاحظات دوَّنها في كتاباته العديدة عنهم لا تنحصر في الموسيقى أو الشعر أو العمل المسرحي. بل كانت تتناول العلاقة بين كل مكوِّنات المسرح الغنائي في أعمالهم، وفي أعمال موسيقيين عرب آخرين. ذلك أنه كان يستند في أحكامه النقدية إلى ثقافته الموسيقية التي كانت تجعله يقارن بين ما كان يرى من عمل مسرحي غنائي في بلداننا، وبين الأوبريت والأوبرا والأعمال الموسيقية لكبار كلاسيكيي الموسيقى الغربية.
شرع نزار بين 1989 و1990 نقاشات معمَّقة حول قضايا الفكر، وقضايا الثقافة بعامة، فضلاً عن اهتمامه الدائم بالموسيقى اللبنانية والعربية. وكنت واحداً من الذين أجرى معهم نقاشاً واسعاً في قضايا الفكر والثقافة والسياسة. وكنا في لبنان في أدق مرحلة من تاريخنا الحديث، هي المرحلة الفاصلة بين احتمالات نهاية الحرب الأهلية واحتمالات بداية سلم أهلي كنا نخشى في ظل التدخلات الخارجية العديدة ألاَّ يلبّي بعض أحلامنا ومطامحنا كلبنانيين، وكيساريين على وجه الخصوص. وبدا لي نزار في تلك الفترة شديد القلق.
ذات يوم قبل أن يقعده المرض، ذهبت إليه في منزله لمرافقته إلى منزلي للمشاركة في سهرة مع مثقفين لبنانيين من أصدقائنا المشتركين، احتفاءً بالممثلة المصرية محسنة توفيق، بحضور زياد الرحباني، فاعتذر عن عدم الذهاب معي وسلَّمني رسالة طلب مني أن أقرأها عندما أعود إلى منزلي. وكانت كلماته القليلة في تلك الرسالة تشير إلى أنه بدأ يشعر بدنو لحظة الرحيل.
لقد شعرت، وأنا أستعيد قراءة ما كتبه نزار تحت عنوان «ميتافيزيق عاصي»، عن عاصي الرحباني بعد رحيله بفترة، كأن نزار يتحدث عن نفسه. هو في هذا المقال فيلسوف من الطراز الرفيع، عميق المعرفة بالنفس الإنسانية. وكأني به كان يتنبأ بمصيره هو حين كان يتحدث عن مأساة عبقري من نوع عاصي الرحباني. هذا هو نزار مروة الذي لا يعرفه القرّاء في البلدان العربية كما يجب، وإن هم عرفوا شيئاً عنه، فإنَّ ذلك يبقى أقلّ من المطلوب. ولعل هذه السطور محاولة أولى لتسليط الضوء على ناقد ومثقّف لبناني من الطراز النادر، بشخصيته الثقافية المتعددة الجوانب.
* كاتب ومفكّر سياسي لبناني



كل نقرة موسيقيّة

قدّم زياد الرحباني شهادة عن نزار مروّة، في كتاب ضمّ مقالات الراحل: «لا أحد في الجمهورية اللبنانية يفهم بالنقد الموسيقي مثل نزار مروة. يحكي عن الكلمة وعن كل نقرة موسيقيّة، وكيف أن نقرة معيَّنة سقطت من النوتة. وهو يسمِّي تلك النوتة بالتحديد. يقول لك: ضربوا هذه الـ «فا» فطلعت زايحة!(...) كان عندنا هذا الزلمي بيفهم بالموسيقى، وبيعرف كمان يعزف على آلة».