الشيخ والصغيرة
في التسعين من عمره اكتشف بطل غبريال غارسيا ماركيز في قصّة «عن سيرة مومساتي الحزينات» أن الحبّ ليس من أهواء النفس «بل هو برجٌ من أبراج الفَلَك». غارسيا ماركيز من برج الحوت، أمّا بطله فلعلّه عذراء، وقد وقع، ليلة تسعينه، في عشق مومس بتول ابنة أربع عشرة سنة ومن برج القوس. يعقد معها علاقة نوم. نوم بمعنى رقاد. يأتيها في ساعة متقدّمة من الليل وهي غافية عارية في سريرها، فيملأ عينيه من جمالها ويناجيها همساً أو صمتاً، ويسارع إلى الانصراف في الخامسة صباحاً قبل أن تستيقظ، وغالباً ما تتظاهر بالنوم وهو يتغزّل بها أو يروي لها الحكايات، ويتظاهر هو الآخر بأنه مُصدّق أنها غافية. إلى أن تفوّهت ذات ليلة ببضع كلمات، فتأكّد له أنّه يفضّلها نائمة.
تفاصيل كثيرة والعقدة واحدة: شهوة عجوزٍ تتحوّل إلى حبّ عذري مأجور. انهيارُ حدود العمر في غفلتين: غفلة النوم النضير وغفلة الهَوَس الأخير. تواطؤ غير مُعْلَن بين المَطْلَع والقفلة، بين العفو والمحكوم. تمثيليّة هائلة في نعومتها، يلعب فيها كلّ من الطرفين دوره من وراء الستار. قد يكون في كلّ حبّ تمثيل، ومع هذا ففي كلّ عرض لهذا التمثيل تتجدّد أنفاسُ العالم.
في التمتُّع بمرأى عري نائم قناعةٌ مسكينة. النومُ حالة غير جماليّة. المرأةُ النائمة كائنٌ مستسلم والمستسلم يثير الرحمة لا الشهوة. وحركة الجسد وحدها لا تكفي لتعطيه قدرة الإيحاء بل يجب أن تكون الحركة واعية. العري النائم خرافة قد تفعل في مخيّلة ولد أو يافع لكنّها، بالنسبة إلى الرجل، محفوفة بخطر الوقوع في أوضاع أو حركات منفّرة. النوم عارية لا يجعل جسد المرأة شهيّاً بل يكشفها بعيداً عن أساليب الغواية والسحر. الرغبة ثمرة الخيال. الخيال تقدحه حركة، وقد يقدحه سكون شرط أن يكون سكون اليقظة.
ينجو السَرْد من الإملال لأنّه يقتبس من حيويّة السينما و«يوميّة» الصحافة ورشاقتها. يجدر ذلك بالقصّة. وهي لم تحظَ بمثله في عصورها الماضية حيث وقعت في مستنقعات الوصف واستلقاءات النارجيلة الإنشائيّة.
يمتاز غارسيا ماركيز بطراوة غنائيّة ونَفَس حكائي مطبوع ومخيّلة خضراء، وهو يؤلّف بين الواقعي والعجيب، وفي حكايته الأخيرة هذه يواصل منواله في التعريج على السخرية، ويبالغ مرّات كمن يخجل بعواطفه فيصطنع المزاح لتمويه الانفعال، وإذا صحّ ما نقول، يكون فاقداً ثقته بأفضل ما فيه.
وجريئةٌ ملاحظته الفلكيّة. لم يعد مثل هذا التصريح مستهجناً في الأدب الغربي، ولعلّه سيدرج أكثر فأكثر مع اشتداد حاجة المرء إلى ما يساعده في مقاربة الآخر ومع اقتناعه بكونه جزءاً من وحدة الوجود يتفاعل مع المكوّنات والكائنات سلباً وإيجاباً في طبيعةٍ هي، على تشبيه الشاعر، «غابةٌ من الإشارات والرموز».
تظلُّ حكايةٌ كهذه فرصة للنقاش في موضوع اختلاف الأعمار. هنا صغيرة تلعب لعبةً كبيرة وكبيرٌ يَضحكُ عليه عمره.
قدرةٌ هائلةٌ على الحبّ في غير وقتها. صبا يوقظ الغرائز وينام، ورمادٌ في مجمرة يتمسّك بأذيال شَرَرِه. صباحٌ مُطلٌّ بوهجه الغازي، ومغيبٌ يبسط نحوه ذراعيه مستعطفاً...
حين يلتفت الليل إلى النهار يذرف الوداعُ أحرّ دموعه. حين يلتفت النهار إلى الليل فذاك وجهُ الله.

لشخص

الفنّان الذي يتوَجَّه إلى «الجميع» لا يتبقّى منه شيء في أحد.
نكتب لشخص، نلحّن نغنّي نمثّل ننحت ونتكلّم لشخص.
شخصٌ واقعيّ في البداية ثم يأخذ في التماهي مع المُطْلَق.
المُطْلَق شخصيّ.

أصوات

الملحّن المُلْهَم لا يؤلّف، تقريباً، إلّا للأولاد، والصوت الآسر يراوح بين كونه تعبير حنجرة واحدة وتعابير جوقة.
يسخر الفرنسيّون من قلّة فطنة أحدهم بإطلاق صفة «طفل الجوقة» عليه. أتمنّى أن أولد في حياة ثانية ولداً دائماً يغنّي في جوقة أولاد دائمة أو ملحّناً لجوقة أولاد. أيّاً كانت روعةُ السولو في الأوبرا لا تعلو على الكورال. الملائكةُ تغنّي مجموعةً لا كُلٌّ على انفراد، وغناؤها هو وحدة الأناشيد، هو الجنس الواحد الكثير التنوّع. في الأصوات البشريّة «الراشدة»، الصوت الذي يقارب الكمال ويستعصي على الزمن هو الصوت المتنقّل على راحته بين الجنسين، واللاعب على جدولهما بخفّة الساحر.
يلاحظ المستمع كيف لخمس مطربات عربيّات شهيرات، على الأقل، أصواتٌ جامعة بين الخافض والعالي، الخشن والأملس، الساطع والدافئ: أمّ كلثوم، أسمهان، ليلى مراد، فيروز، وصباح. في المقابل يجمع عبد الوهاب بين الرخامة والظلال، ويحلّق وديع الصافي كالنسر ويَغلّ كالبلبل.
أصواتٌ كثيرةُ الأصوات. أصواتٌ مسارح، تأخذ سامعها حيث تحطّ بها الرحال، وأحياناً، إذا كان رصدكَ فيها، لا تحطّ رحالها إلّا وأنت فاقد نَفْسَك.

جلوساً بها

مرّات تَرى سقفاً عتيقاً وقد أخذ فجأةً يتشقّق، ينزف بعض التراب، وأصواتٌ هناك تئنّ كأنّ أصحابها يمسكون بتلابيب طفل يوشك أن يقع، وقد بدأت قواها تخونها وراح الطفل يُفلت من الأيدي...
سقوفٌ تعبتْ أن تَظلّ سماء. ترنو إلى السقوط كما يرنو البَرْدان إلى المدفأة.
على أعالي الجبال يحصل مثل ذلك في ثلوج القمم. «التشليق»، بتعبير القرويّين. وفي الأغنية تقول الجوقة متهيّبة ملتاعة: «عم بي شلِّق صنّين...».
جبالٌ تعبتْ أن تظلّ جبهةً وكتفاً وجداراً. اسمها نفسه أرهقها وتَحنُّ إلى النزول.
رفقاً بالواقفين. رفقاً بالسماء وبسماء السماء. أَسمعُ في الليل تأفُّف الحرّاس يريدون أن يستريحوا، أن يبيتوا إلى فنادق الوديان.
جلوساً بها صَحْبي...

لا علاقة للجدارة

لا تُحبّ مَن يستحقّ الحبّ، بل مَن ينتزع منك حبّك انتزاعاً. لا علاقةَ للجدارة.
في الحبّ المستَحَقّ شيءٌ من رماد الحريق، من تَعادُلِ الأصفار. رجلٌ يقول: «أنا استحققتُ حبّ هذه المرأة!» يدفعها لازدرائه ويُسوّي أمامها دروب الزنى.
قد تحبُّ امراةٌ فاتنةٌ رجلاً تافهاً، فهل يُباعد ذلك بينها وبينه؟ بل تراها أشدّ انجذاباً إليه. قد يعشق رجلٌ خطيرٌ امرأةً خرقاء ولا يرى نفسه إلّا غارقاً في أسرها. لماذا؟ لأنّ العاشق يعشق تبعاً لمخزونِ حاجته لا وفق فضائل معشوقه، ولأنّ المنجذب إلى «المعشوق الناقص» يرى نفسه عاشقاً بالحجمين: مرّة عن نفسه ومرّة نيابة عن المعشوق الناقص أو، إذا أردنا أيضاً، عن نواقص معشوقه.



عابرات

في مكانٍ ما لا بدّ أن تُصاب. لا تقدر أن تنجو باستمرار. إذا نجوتَ باستمرار فلا بدّ أن يكون ما نَجَوْتَه ناقصاً أو زائداً ولم تكن منتبهاً. إذا ظننتَ أنّ الحجرَ ينجو فأنت لا تعرف الحجارة.

■ ■ ■

هنالك عينٌ ولا خرزة زرقاء تحمي منها. قد يحميك الحبّ، لكنّه سيعجز عن حماية ذويك.

■ ■ ■

النبعُ لا يسقيك لأنّه النبع بل لأنّك الشفاه.

■ ■ ■

لا يسقط إلّا العالي، والسقوطُ من بعض الأعالي خلاص.

■ ■ ■

اللقاءُ معجزةُ الجمود.

■ ■ ■

إذا استسلمتَ لحرير الذكرى فلا تلتفتْ، ذراعاها دائماً أمامك.