يفتتح الطيب تيزيني كتابه «استكشاف ـــــ أسئلة الفكر العربي الراهنة» (الدار السورية اللبنانية للنشر) بمفارقة دالة، تختزل موقع مثقّف اليوم من المشهد المعرفي. يروي المفكّر السوري كيف أخرج أستاذ جامعي دفتراً من حقيبته، وبدأ يدلي بأجوبة قاطعة عن محتوى شهادة قدّمها تيزيني للتو. المفارقة أنّ ما قرأه الأكاديمي، لم يشتبك مع ما ورد في هذه الشهادة عدا عنوانها، ليتبيّن باعتراف الأكاديمي نفسه أنّه كتب آراءه هذه قبل عشر سنوات من الآن. هذه الحادثة هي إحدى المفارقات التي تعيشها النخب الأكاديمية، وهي تتخندق وراء أفكار جاهزة، عدّها صاحب «من التراث إلى الثورة» امتهاناً لأصول الحوار، و«مطابقة مع الخطاب الاستشراقي المشبع بنزوع مركزي أوروبي وأميركي، مؤسّس على نظرة دونية للفكر الشرقي عموماً».الكتاب مجموعة محاضرات تتمحور حول انسحاب دور المثقف من عملية التغيير، كمحصلة لعجز قسري أصابه بسبب غياب ثلاثة عناصر أساسية تتحكم بحضوره، هي: «الحرية، والكرامة، والكفاية المادية». هذا المدخل الموارب إشارة أولى إلى غياب الأسئلة عن الفكر العربي الراهن، وتعبير حاد عن واقع المؤسسات الأكاديمية والثقافية التي تعيش اضطراباً مزمناً، يعكس فاتورة ضخمة من التخلف والفساد والتقهقر المعرفي.
لكن ما هي الأسئلة الراهنة التي تواجه الفكر العربي؟ يعدّد تيزيني مجموعة ثنائيات تتمثل في العلمانية والدين، والعدل والحرية، والعقل والضمير لكن من دون إشعال النار؛ إذ تهيمن التهدئة بين القطبين، نتيجة سقوط منظومة القيم الأخلاقية البنّاءة، وظهور منظومة قيم جديدة، «مؤسسة على الدعارة، والفساد المالي، واحتقار الآخر، واللصوصية، والطائفية، والمخدرات، ونهب الثروة، والسلطة». ذلك أنّ قيم العولمة أرخت بظلالها على الحطام العربي، ما أدّى إلى تضامن معلن بين قطبي الظالم والمظلوم.
ويشخّص تيزيني المشهد السياسي العربي (ما قبل الثورات الراهنة) بأنّه يقوم على «اقتصاد خراجي مافيوي، ومجتمعات قبل صناعية مفككة، وإيديولوجيات دينية، وأخرى سلعية، أتت بالتساوق مع تفكك الطبقة الوسطى وتصدّعها». هكذا يرى في انتفاضة تونس «نموذجاً خلّاقاً للفعل العربي التاريخي الجديد، حين فتحت الدائرة أمام المذلين والمهمّشين لبناء عالم جديد». وينبّه إلى ضرورة الشروع في إصلاح ديموقراطي، يعيد الكرامة للعباد، بدلاً من الفساد والإفساد والاستبداد، وإعادة الاعتبار إلى الثقافة العربية، بوصفها صمام الأمان الأخير والوحيد في وجه الثقافة العولمية. ويتوقف صاحب «بيان في النهضة والتنوير العربي» عند تأثيرات ثورة الاتصال والمعلومات في تأسيس «استراتيجية الاستفراد والهيمنة»، عبر منظومة عولمية تعمل تحت راية «وحّد تسد»، بديلاً لنظرية الاستعمار القديم «فرّق تسد». كذلك استبدلت أطروحات الحداثة بإحياء الهويات ما قبل الوطنية، ما أحدث شرخاً في تاريخ الشعوب وتراثها بقصد تفتيته لمصلحة، «أطلس استراتيجي جديد» ما فوق قومي، ينهض على ثقافة السوق وحدها. هذه التحديات وضعت المثقف العربي، وفقاً لما يقوله تيزيني، في حالة انعدام الوزن، ببروز هوية وطنية مفكَّكة، مرشّحة للقضم والابتلاع.
وإذا كانت العولمة قد سعت إلى تدمير الهويات المحلية، فإن محنة المجتمع العربي لا تتوقف عند هذا التحدي وحده، هناك «الاستبداد السياسي والعقم المعرفي»، كسيفٍ آخر يحزّ عنق التطلعات التنويرية للعالم العربي. «فالرأي والرأي الآخر يغيبان ويُغيّبان لمصلحة إعلام السلطة الذي يمضي يداً بيد، مع قوانين طوارئ يُراد لها أن تبقى أبديّة». وهذا ما أدّى إلى حالة من الغيبوبة والشلل العمومي من جهة، ولقمة سائغة للعولمة المتوحشة من جهة ثانية، في نتيجة لتدنّي التحصيل المعرفي، وضعف الابتكار، واطراد التدهور. ويختزل هذه التحولات النوعية الكبرى والمفتوحة التي باغتت المجتمع العربي بما يسميه «الاستبداد الرباعي» المتمثّل بالاستفراد بالسلطة، وبالثروة، وبالحقيقة، وبالرأي العام، ولعل هذا ما عجّل خروج العرب من التاريخ.
يتساءل تيزيني في الختام: لماذا انكفأ المثقف العربي عن القيام بدوره في لحظة مفصلية؟ يجيب: «ابحث عن السياسة». النخب السياسية والعسكرية أقصت المثقف عن دائرة الفعل، أو أدخلته في النظام السياسي والأمني في عملية شراء وبيع، أو «أن يعيش عيشة الكلاب». أما عبارة «شرف المثقف، فقد باتت عملة نادرة في سوق النخاسة الثقافية التي تقوم على المعادلة التالية: إما انصياعك كليّاً وإما تجفيف كل شيء في حياتك». هكذا يستشهد صاحب «الفساد والإفساد» بعبارة للمتصوف وهب بن منبه: «فإياك وأبواب السلاطين، فإنّ عند أبوابهم فتنة كمبارك الإبل، لا تصيب من دنياهم شيئاً إلا وأصابوا من كرامتك وشرفك مثله». لم يعد ممكناً إذاً، استعادة المثقّف دوره، إلا عبر استرداد الحرية والكرامة والكفاية المادية، وإصلاح واقع الحال بأدوات علمية دقيقة، والمشاركة الفاعلة التي يتعيّن على المثقفين إنجازها في حقلهم، من طريق رفع وتائر الإنتاج الثقافي والإبداعي، وتأسيس منابر ثقافية جديدة.