متسلّحاً بالرؤية والمثابرة، وصل المنتج والمؤلف الموسيقي غازي عبد الباقي بمشروعه الفني إلى مرحلة الاختمار. في العيد العاشر على تأسيسها، ستتفوّق شركة الإنتاج التي يديرها على نفسها، مع تحوّل «فوروارد ميوزك» إلى جزء من مشروع أكثر طموحاً. منذ عام 2001، تناضل الشركة كي تضمن استمراريتها وتحافظ على مستواها الفني، في ظلّ العجز الإنتاجي المتحكِّم في السوق. وطوال عقد كامل، أمتعتنا المؤسسة بأسطوانات لفنانين مميّزين على الساحة المحلية والعربيّة، ومن مختلف المشارب الموسيقية، مثل مصطفى سعيد، وسمية بعلبكي، وشربل روحانا، و«فريق الأطرش»، وزياد سحاب، وعيسى غندور، إضافةً إلى غازي عبد الباقي نفسه، المؤلف والموزع وعازف الغيتار والإيقاعات.شارك غازي في فرق كثيرة في لبنان والولايات المتحدة، قبل أن يُصدر عام 2004 أسطوانته الأولى «بلاغ رقم 1». في بلاغه ذاك، حدّد خطّه الموسيقي، وأسلوبه الفني المتمثّل في مزج الأنواع الموسيقية المختلفة من الجاز إلى الفولك والأفريقي/ الكوبي والفانك وغيرها، نافحاً فيها كلمات الحلّاج وطاغور وشعراء آخرين. وعلى صورة موسيقاه التي تمثِّل تقاطعاً للأجناس والأنواع، يبني عبد الباقي مشروعه الجامع ورؤيته الجديدة لـ «جمهوريّة الموسيقى الديمقراطيّة» Democratic Republic of Music ـــــ DRM للمقرّبين ـــــ المساحة الفنية الجديدة التي يفتتحها الليلة في شارع الحمراء.
ستحتلُّ مكاتب «فوروارد ميوزك» غرفاً داخلية من الـ DRM. أمّا باقي المكان، فسيجمع بين أجواء البار والمسرح، ويحتضن برنامجاً فنياً منوّعاً، وحفلات تنطلق غداً مع العازف اللبناني توفيق فرّوخ (راجع مقالة الزميلة هالة نهرا أدناه). DRM لن تكون مجرد مساحة لتنظيم الحفلات الموسيقية. الطابق السفلي من المبنى الذي يتوسط شارع صوراتي المتفرّع من الحمراء، هو أكثر من ذلك بكثير. هو جمهورية سوف تحتضن عالماً كاملاً وثرياً من التجارب الموسيقية الأصيلة. جمهورية ديمقراطية يستمع فيها الحضور إلى «الآخر»، سواء أكان يقدّم طرباً أم موسيقى العالم، أم ريغي أم فلامنكو أم «راب»، أم غيرها من أنواع الموسيقى.
«منذ عام 2006، ونحن نقيم حفلات للفنانين المتعاملين مع «فوروارد» لإطلاق أسطواناتهم في أماكن غير متناسبة تماماً مع المتطلّبات التقنيّة والفنية لهذا النوع من الإبداع»، يقول عبد الباقي. ويضيف: «المسارح ليست مجهّزة تقنياً كما يجب من ناحية الإضاءة والصوت، لاحتضان حفلات موسيقيّة، إضافةً إلى أنّ الجلوس في مقاعد متراصّة، لا يتيح للحضور مرونة وحرية التفاعل مع الموسيقى». شعر المنتج بأنّ المدينة تحتاج إلى مساحة يتاح فيها للجمهور نوع من الانعتاق. وهكذا نشأت فكرة «جمهورية الموسيقى الديمقراطية». بحماسة، تواطأ مع المهندس الكندي Gregg Gatserelia، صاحب شركة «غاتسيريليا ديزاين» التي يزخر رصيدها بلائحة طويلة من التصاميم المميزة في لبنان، منها «فندق ريفييرا».
النتيجة: مينيمالية صارخة تستعير مفردات «التصميم الصناعي»، ذلك الأسلوب الهندسي السابق حتى لـ «الباوهاوس» (منذ عام 1919) الذي ترتكز فلسفته على الجمع بين الجمالية وقابلية الاستخدام من خلال جعل القيمة والمنفعة الوظيفية للأشياء المستخدمة في المساحة جزءاً من الديكور. تهبط عبر الدرج الخشبي، فتبدو لك الكراسي الجلدية الواطئة حول الطاولات. وينقسم الفضاء إلى ثلاثة مستويات محيطة بالمسرح الواسع. هنا «الكراسي البلكون» التي تذكر بالأوبرا، تستفيد من كلّ شبر من المساحة، فتستقر ولو على مستوى عالٍ يشرف على الصالة. وهناك كراسي البار تواجه المسرح وسط جزيرتين تذكّران، بديكور معمل الأسلحة الذي اغتربت فيه شخصيات إمير كوستوريتسا في فيلم Underground. الأرضية والجدران لم تطليا، بل تُركتا لتحافظا على طابع الإسمنت، وتأخذا ألواناً متنوّعة بفضل الإضاءة.
لكن القطيعة لن تكون صارمة بين DRM والعالم الخارجي. هنا يدخل الجمهور في خلوة، إنما ليتواصل مع محيطه الصغير والكبير، ومع زمنه وعصره، من خلال الموسيقى. برنامج شهر حزيران (يونيو) يعطي فكرة عن التوجّه العام (راجع مقالة الزميل بشير صفير إلى اليسار). أوّل الغيث عودة توفيق فروخ مع سكسوفونه بعد غياب طال عن بيروت، ليحيي أمسيتين في مناسبة صدور أسطوانته الجديدة عن « فوروارد »، (غداً وبعد غد). يتبعه كلّ من شربل روحانا و«فرقة بيروت للموسيقى الشرقية» (4/ 6)، وسمية بعلبكي (24/ 6)، وزياد سحاب (17/ 6)، وعيسى غندور (11/ 6) من لبنان، وفرق أجنبية مثل ثلاثي ستانلي جوردان (16/ 6)، وطوني آلن (18/ 6)، وكاريس فوتسو (23/ 6)، وثلاثي جوي دي فرانسيسكو (25/ 6)... ويعدنا غازي عبد الباقي باستقدام فرق مثل «فرقة النيل» و«الطنبورة» المصريتين، وغيرهما من الفرق الأجنبية في وقت لاحق.
تطمح «جمهوريّة الموسيقى الديمقراطية» لنقل العلاقة مع الجمهور الى مستوى احترافي، عبر الدوريّة والانتظام، والبرمجة المسبقة التي توضع قبل فترة زمنيّة في متناول هواة الموسيقى. على البرنامج اثنتا عشرة حفلة شهرياً، بعضها ستكون مواعيد دوريّة ثابتة لفنانين تنتج «فوروارد» أسطواناتهم أو توزّعها. وإلى جانب الموسيقى، يعتزم عبد الباقي تقديم حفلات «ستاند أب كوميدي» (نمر أبو نصار، زياد سحاب، وآخرون)، وأمسيات لـ«الشعر المديني» urban poetry الذي يمثّل نواة أغاني الـ «هيب هوب» قبل تلحينها.
الفلسفة بسيطة: مكان مريح، مرن، يقدم الموسيقى الجيدة ومقومات الاسترخاء ووجبات العشاء (قبل بدء الحفلة أو بعد انتهائها) التي تتبدل لائحتها بحسب هوية الحفلة، كما يأخذ الأسعار في الحسبان، فيعمل على أن تكون عادلة في جميع الأحوال. كل ذلك في جوّ ودي وحميم، «يشبهنا ويشبه الحمراء»، يشدّد غازي. فاختيار الحمراء مقراً لـ «جمهوريّة الموسيقى الديمقراطيّة» لم يأت مصادفة. «رأس بيروت هو المكان الذي يشبهنا، نحن الفريق المكوّن من فنانين وإداريين على تنوعه. في أحلك الظروف، لم تتحول الحمراء إلى غيتو كغيرها من المناطق. هذا ملعبنا».
في هذا السياق، قد يحيل DRM على تجربة أخرى مميزة في لبنان هي الـ«ميوزكهول». ويثني عبد الباقي على صاحب المكان، المنتج والموسيقي ميشال إلفتريادس، لأنّه «تمكّن من الحفاظ على استمراريته طوال تلك السنوات»، لكنّه يلفت إلى اختلافات بسيطة في فلسفة المكانين، والرؤية التي تحكمهما. فـ DRM يتعهد تقديم حفلات كاملة لفرقة أو فنان، لا عروض متتالية لفنانين عديدين وفرق في ليلة واحدة. الأهم من ذلك هو أن تقنيات الصوت والتصوير الديجيتال المتقدمة جداً التي زُوّدَت القاعة بها، سوف تتيح تسجيل الحفلات على أقراص «دي. في. دي» وأسطوانات مدمجة، إضافةً إلى تأمين نقلها الحي والمباشر على موقع DRM الإلكتروني. هذه الخدمة ستفتح المجال لاستقبال طلبات إقامة الحفلات الخاصة أو الندوات التي قد تتقدم بها جهات مختلفة كشركات أو جامعات أو مؤسسات.
ثمة مفاجأة أخرى. الطابق السفلي سيحتضن حفلات وأمسيات عدة كما سبق أن ذكرنا... أمّا الطابق الأرضي، فسيكون فضاءً لمقهى يقدم خدمة من نوع آخر. يحاكي بتصميمه وهندسته الأسلوب النيويوركي، إذ تسوده الأجواء المسترخية الهادئة، إلى جانب تقديم الطعام والشراب كأي مقهى. الفرق أنّ رواد المكان سيتمكنون من شراء ما استلذوا طعمه، كأنّهم يشترونه من سوبرماركت، ليأخذوه معهم.
«فوروارد ميوزك» الشركة التي بدأت «كردِّ فعل على الواقع الرديء للتسويق» وكان هدفها «احتضان التجارب الجديدة والمختلفة وتأمين توزيعها»، راهنت على «بناء تراكم يتحوّل إلى أمر واقع يضمن استمراريتها»، كما يقول غازي عبد الباقي. اليوم، ها هي ـــــ في مناسبة مرور عشر سنوات على إنشائها ـــــ تحتفي ببداية جديدة تتوّج المرحلة السابقة وتستكملها، واعدةً بأمسيات تعيدنا إلى الزمن السعيد لبيروت وشارع الحمراء.

الافتتاح الليلة 8:30 مع عروض موسيقية حية لمجموعة من فناني «فوروارد ميوزك». للاستعلام: 70/030032
www.drmlebanon.com



... والموسيقى الأفريقية

الموسيقى الأفريقية تتمثّل أيضاً في موعدَيْن على برنامج «جمهورية الموسيقى الديمقراطية» الفنيّ. من نيجيريا، يزورنا الموسيقي طوني آلِن (18/ 6)، عازف الدرامز البارع وصاحب التاريخ الصاخب في صناعة ونشر ما يُعرَف بالـ Afrobeat (الإيقاع الأفريقي). آلِن يحضر مع فرقته المؤلفة من تسعة أعضاء، ما يزيد من حماسة هذا اللقاء. في مجال آخر أكثر هدوءاً وصفاءً، تقدّم عازفة الغيتار والمغنية الكاميرونية، كارايس فوتسو (23 / 6 ــ الصورة)، أمسية تؤدي فيها أغانيها الخاصة، بين فولك وبلوز أفريقي. وهنا الموعد مع الصوت الأفريقي الكلاسيكي حيث يجتمع الحزن والأمل.



جاز في الـ DRM

إضافةً إلى الأسماء اللبنانية، هناك أربعة فنانين أجانب سيشاركون في تظاهرة «جمهورية الموسيقى الديمقراطية». اثنان يندرجان في خانة الجاز. الأول والأبرز في المجموعة، هو عازف الغيتار الأميركي الشهير ستانلي جوردان ( 16 /6). والثاني، مواطنه جوي دي فرانشيسكو (25 / 6)، العازف المتمكن من الأرغن المستخدَم في الجاز. ونقصد تلك الماركة الشهيرة «هاموند» التي منحتها نبرتها تصنيفاً مستقلاً في عالم الآلات. إنها بداية أكثر من جيّدة في برمجة «الجمهورية» تمنح التظاهرة نكهة أخرى في ظلّ «كلاسيكية» المواعيد المحلية.