«إنّها الحرّية، كالفرح والحزن»، هكذا يصف توفيق فرّوخ الموسيقى. عازف الساكسوفون الشهير والمؤلّف اللبناني الذي قطع أشواطاً في رحلة النضج الموسيقي، يحتلّ مكانة خاصة على خريطة الجاز والموسيقى المعاصرة، ويكرّس اهتمامه الأكبر للدمج بين روافد مختلفة. الفنان الذي يفتتح برنامج «جمهورية الموسيقى الديمقراطية» غداً الخميس والجمعة، يشقّ دهاليز للتأليف الآلاتي العربي، ويتسلّل إلى مناطق عزفية ولحنية مفاجئة، مستثمراً التوظيف المشهدي، وجامعاً بين التعبير الحديث والكتابة العلمية. أسطوانته الجديدة «سينما بيروت» (شركة «فوروارد ميوزك») التي تشتمل على محطّات موسيقية تصويرية وأخرى وضعها فرّوخ للوحات راقصة، تنمّ عن نفَس شبه موحّد، وتبيّن مدى اجتهاده، إن لناحية العزف أو التأليف أو التوزيع. «يرسم توفيق فرّوخ ألوان الشرق على تعرّجات الجاز». هكذا اختصر أحد النقّاد تجربة الفنّان العصامي الذي وجد في فرنسا ملاذاً يقيه ذبذبات الحرب الأهلية اللبنانية، وفضاءً رحباً للموسيقى. منذ بداياته، تميّز بنفخة لا مثيل لها على الساكسوفون، وتقنيّات مبتكرة. يغرف فرّوخ من التراث والطرب والموسيقى العربية التقليدية والمتقنة بقدر ما يحاول تشكيل هوية جديدة للموسيقى العربية، أو لنقل الشرقية. عازف الساكسوفون الذي يعدّ بين الأبرز عربياً ينحو إلى التجريب، ويشتغل على التنويع إن على الصعيد الإيقاعي، أو على مستوى الآلات (الغربية والشرقية) والتيمات الموسيقية.
صاحب «أسرار صغيرة»، شارك عزفاً في العديد من أعمال وحفلات زياد الرحباني وفيروز، وتعاون مع تانيا صالح (درابزين ــــ 2002) وريما خشيش (توتيا ـــ 2007). يتنقّل بسلاسة بين الفانك والبيبوب والبوب والارتجال الجازي والتقاسيم والموسيقى الكلاسيكية والمعاصرة (الشرقية والغربية)، ويفرض تدريجاً حضور الساكسوفون في الموسيقى العربية. وهذا ما يُحسب لصاحب «علي في برودواي» قبل كلّ شيء. مشاكسٌ هو. مُتَّئِد ومقدام في الوقت نفسه. منخرط حتّى العظم في مشروع موسيقي يقوم على التجديد عموماً.
لا شكّ في أنّ دراسته الموسيقية في باريس أسهمت في صقل موهبته، وبلورة شخصيّته الفنّية. لكنّ إقامته في فرنسا لم توقعه في فخّ «التغريب». حتّى الآن على الأقلّ، لم يقدّم الفنّان اللبناني العالمي تنازلات لجذب الجمهور، ما يضفي صدقية على نتاجه. لكنّ ذلك لم يجعله أسير الدائرة النخبوية التي عرف، بذكائه وحساسيّته، كيف يكون داخلها وخارجها في آن معاً. يميل إلى لغة موسيقية شجية ومسنّنة، ويدمج أحياناً بين الجاز والموسيقى العربية خارج تلاوينها العادية، متجنّباً المقامات الحاوية ثلاثة أرباع الصوت.
وهذا ما يتبدّى في «سينما بيروت» التي ستكون محوراً أساسياً لحفلاته اللبنانيّة الثلاث (بيروت، ثم البلمند)، ويمكن عدّها إحدى أهمّ الأسطوانات التي أُطلقت أخيراً على الساحة المحلّية، ليس فقط بسبب حيويّتها والجرأة التي تمتزج بإمكانات موسيقية تأليفية غير عادية، بل أيضاً بفعل تنفيذها الدقيق. النغمات التي نُسجت على نول النهوند والحجاز والكرد والنكريز، تتشابك في كثير من الأحيان. المقطوعات التي وضعها فرّوخ للعديد من الأفلام اللبنانية («أرض مجهولة» لغسان سلهب، و«خادمات للبيع» لديما الجندي، و«فلافل» لميشال كمون...)، تستند إلى بنية هارمونية دينامية، وتتميّز بحبكة إيقاعية متينة.
إن تمايز فرّوخ يأتي على الأرجح من قدرته على تكثيف مقطوعاته وتطعيمها بمذاق شرقي لا يستفزّ الأذن الغربية. الأسطوانة الجديدة التي شاركت في تنفيذها نخبة من الأسماء اللامعة في عالم الجاز (نيكولا جيرو، ودانيال زيمّرمان، ولياندرو أكونشا، وسيلفان غونتار...)، تبدو موجعة لفرط بلاغتها، والمستوى التراجيدي الذي ترقى إليه. مقطوعة «الفتى الأحمر» (الجزء الأوّل)، تندرج في خانة الموسيقى الغربية الكلاسيكية المعاصرة، فيما تكشف Fema Ka وغيرها من المقطوعات أنّ فرّوخ لم يفلت من سطوة زياد الرحباني، وخصوصاً في ما يتعلّق بالكتابة الهارمونية لآلات النفخ، وأسلوب التوزيع، وكيفية صهر الموسيقى الشرقية في الجاز. بلى، إنّه المشروع الذي كان زياد سبّاقاً إلى مباشرته، وله أثره الكبير على المشهد الموسيقي اللبناني والعربي.
مع ذلك، تتميّز «سينما بيروت» بقدر من الخصوصية. حين يحيد فرّوخ عن الطرب والتراث، يبقي على الجسر الذي يربطه بالشرق، حتّى في المقطوعات التي تتّسم شكلاً ومضموناً بطابع غربي. وهذا ما تنمّ عنه مقطوعة «تانغو أزرق» (تدور على إيقاع رباعي)، وفيها يبتعد المؤلّف عن التانغو التقليدي الذي يعتمد على الباندونيون آلةً أساسية، مستعيضاً عنها بالبيانو حيناً وآلات النفخ أحياناً، وموفِّقاً بين النفَس الشرقي واللاتيني والأوروبي. لا نبالغ إذا قلنا إنّ موسيقاه ـــــ التي تصفها بعض الصحف الأوروبية بأنّها «جاز بنكهة شرق أوسطية» و«جاز مندمج في موسيقى الشعوب» ـــــ معبرٌ بين ثقافات عدّة.
فرّوخ الذي يفضّل مصطلح «حوار (لقاء) الأنماط الموسيقية المختلفة» على اصطلاحَي «المزج» و«الدمج» (فيوجن)، يصل بين أشكال وتعبيرات فنّية مختلفة. لا يملك إجابة شافية عن مكوّنات أعماله ومقطوعاته الجديدة. بأسلوب لا يخلو من الغموض و«الشاعرية»، يتحدّث عن مشروعه: «أشتغل على تقطير شكل موسيقي، ولحن، وطريقة للعزف (...). كلّ ذلك هو ذريعة للتعبير عمّا أرغب في التعبير عنه. الموسيقى كالنعاس، لا يمكن في الحقيقة تفسيرها».

10:30 ليلاً، غداً الخميس والجمعة ـــ «جمهورية الموسيقى الديمقراطية» ـــ الحمراء، بيروت