بغداد | ما تشهده الساحة الثقافية العراقية بين فترة وأخرى، يجعلنا على يقين بأنّ النخبة السياسيّة غير معنيّة بإرث البلاد الحضاري والمعماري. تلك النخبة تنحصر اليوم في طبقة من المنتفعين الذين يتجاهلون حجم التشوّه الذي يفتك ببغداد، المدينة التي كانت ذات يوم عاصمة الفكر والأدب والعمارة والفن والحضارة. جولة بسيطة في أنحاء العاصمة تكفي للتدليل على حجم الكارثة. هنا، يجد أهل العراق أنفسهم أمام سؤال ملح: ما الذي تعلّمه ساسة العراق من مدن هجراتهم الطويلة، غير المناداة الفارغة بديموقراطيّة مزعومة؟
الفاجعة الجديدة هي محاولة محو أثر محمد مهدي الجواهري (1899 ـــــ 1997) في بغداد. بيت «شاعر العرب الأكبر» في طريقه إلى البيع قريباً، ليصبح واحداً من تلك المباني التجاريّة التي تحاصر الفضاء العام. انتشار الخبر في الأوساط الثقافيّة والإعلاميّة العراقيّة، أحدث بلبلة كبيرة، لما يمثّله المكان من قيمة معنويّة ووطنيّة، لكونه جزءاً من إرث ثقافي وحضاري. فقد أمضى فيه الشاعر معظم أيّامه البغدادية، قبل أن تأخذه المنافي. وبين جدرانه كتب العديد من قصائده الشهيرة. وفيه عاصر تحوّلات عاصمته، وتعاقب السلطات عليها، فكان شاهداً غير محايد على ثوراتها وانكساراتها.
وبعد انتشار الخبر، توجّه الباحث العراقيّ رواء الجصاني، برسالة إلى المسؤولين العراقيّين باسم «مركز الجواهري الثقافي في براغ». أشار الجصاني إلى أنّ «أنباءً مؤلمة فاجأتنا من الوطن (...) خلاصتها أنّ بيت الجواهري الأوّل والأخير في العراق، الكائن في حي الصحافيّين، قرب ساحة النسور في بغداد، سيشتريه خلال أيّام أحد رجال الأعمال، لهدمه وإنشاء مبنى آخر، أكثر «حداثةً» وعلواً مكانه». وذكّر الجصاني في رسالته كيف أنّ «الشعوب المتحضّرة، والبلدان الأقل غنى بكثير من بلادنا، تحافظ على تراث وآثار أدبائها ومبدعيها. وهناك شواهد كثيرة من بيوت ومساكن وشقق، بل وحتّى غرف نوم لشكسبير وتولستوي وغوته ونيرودا وأحمد شوقي» جرى الحفاظ عليها وتعدّ اليوم إرثاً وطنياً وعالميّاً.
بعد تسليط الأضواء على قضيّة «بيت الجواهري»، استفاقت «أمانة بغداد» من رقادها، لتعلن «استملاك الدار الخاصّة بالشاعر الكبير الراحل محمد مهدي الجواهري، إضافةً إلى دار عائلة المصممة المعماريّة العالميّة زها حديد». ثمّ أعلنت الجهة نفسها «تحويل داري الجواهري وحديد إلى متحفين تراثيين، وفق تصاميم ذات طابع تراثيّ ومعماريّ مميّز، تضمّ مقتنياتهما الشخصيّة»، لكن القلق ما زال يساور كثيرين، من أن تكون هذه المناورة الإعلاميّة قصيرة النفَس، ريثما يتحوّل الانتباه عن الصفقة!
محمد مهدي الجواهري ابن عائلة نجفيّة في الأساس، ولم يغادر أرضه الأولى إلى بغداد إلا عام 1927 ليعمل في التعليم، ثمّ عيّن في ديوان تشريفات الملك فيصل الأول. هكذا، عاصر بغداد في عصرها الذهبي، قبل أن يأخد طريق المنفى. وقد أمضى أيامه الأخيرة في دمشق ودفن فيها. ورغم إرثه الكبير، بقي تكريم الشاعر على المستوى الرسمي محطّ سجالات عدّة. على سبيل المثال، فإنّ تماثيل الجواهري السبعة التي أنجزها النحات نداء كاظم، ما زالت تقبع في مكان مظلم، مع رفض السلطات العراقية نصبها في شوارع بغداد. ورغم لقاءات كاظم المتكررة مع جهات حكوميّة وسياسيّة مختلفة، لم تخرج تماثيله إلى الفضاء العام حتّى الآن. الحالة نفسها تكررت مع وعود إطلاق اسم الجواهري على أحد شوارع بغداد... التي بقيت مجرّد وعود.
لا ينطبق هذا الاستهتار على الجواهري وحده، بل يطاول أسماءً عراقيّة لامعة أخرى. ورغم السهولة التي يطلق بها المسؤولون العراقيون التصريحات، تتحوّل معظم المشاريع إلى ملفات في أدراج المكاتب، ويُنسى أمرها بزوال الهمروجة الإعلاميّة. وغالباً ما يجري التعاطي مع المشاريع من دون استراتيجيات واضحة. وهذا ما يدفع إلى التشاؤم من إمكان الخلاص من البيروقراطيات الإداريّة ومافيات الفساد التي تعصف بإرثنا الثقافيّ والفنيّ. وفي هذا السياق، نستعيد بدر شاكر السيّاب، والإهمال الذي يرزح تحته منزل رائد الحداثة الشعريّة العربيّة. ونسأل أيضاً عن مصير النسخة الأولى من تمثال الشاعر مظفّر النوّاب. كم كان جميلاً لو أنّ الدولة العراقيّة المشغولة بصراعاتها الداخلية، فكّرت في جعل مناسبة عودة الشاعر الكبير إلى بلاده، فرصة لنصب تمثال له وسط بغداد.
الخطر المحدق ببيت الجواهري إذاً، ليس سوى عنوان عريض لحالة عامّة: الذاكرة الوطنيّة العراقيّة في خطر، والطبقة الحاكمة، القصيرة النظر غالباً، الضيّقة الأفق، المحدودة بعصبيّاتها وولاءاتها الصغيرة، هي التي أكلت من معلف الاحتلال، غير آبهة للشأن العام، وغير قادرة على إعادة بناء الوطن وإحياء ذاكرته كي ينظر بثقة إلى المستقبل.
دوائر وزارة الثقافة، و«أمانة بغداد»، وحتّى الدوائر البلدية في المحافظات، تفتقر إلى جردة تفصيليّة عن مساكن كبار أعلام العراق في الأدب والفنّ والمعرفة والرياضة... لذا لا عجب إن بيع أحدها أو هُدم من دون أن يعلم أحد.
www.jawahiri.com