عين مارون بغدادي (1950 ـــــ 1993)، تتلصَّص على صفوف مدرسة بقاعيّة، وتلاحق ناديا تويني بين ركام العاصمة. نحن مطلع الثمانينيات، في وسط بيروت المنكوب، وفي صالات سينما الحمراء، ومقهى الروضة، وعلى الكورنيش... الأماكن التي نعرفها اليوم، كانت أماكن أخرى قبل 31 عاماً. لهذا، يأتي «همسات» (1980 ـــــ 90 د.) أشبه بوثيقة مصوّرة، سجّلها مارون بغدادي للتاريخ، عن مدينة لم تعد موجودة اليوم.هذا الفيلم الوثائقي الطويل لم يُعرض سابقاً. وها هي بيروت تحظى بهذا الشرف بفضل «نادي لكلِّ الناس»، الذي يقدّمه بصيغته الطويلة عند السابعة والنصف من مساء غد في افتتاح «مهرجان أفلام الطلاب التاسع» في «مسرح بيروت». بادر النادي إلى ترميم هذا الشريط النادر ضمن مشروع ضخم، لحفظ أرشيف صاحب «خارج الحياة». نسخة مختصرة من «همسات» عرضت سابقاً بعنوان «حنين إلى أرض الوطن ـــــ ناديا تويني» (28 د.)، لكن الفيلم الأصلي، كما أنجزه ومَنتجه بغدادي، بقي على الرفّ «ربما لأنّ ميليشيات تلك المرحلة، كانت تخشى عرض شريط يحمل تلك الرؤيا»، يسرّ إلينا رئيس النادي نجا الأشقر. القائلون بالتقسيم آنذاك، كان يستفزهم عرض فيلم اخترق المناطق والطبقات، كأنّ صاحبه أراد جمع أشلاء مبعثرة من «وطن مجنون»، كما تصفه ناديا تويني (1935 ـــــ 1983).
قبل ثلاث سنوات على رحيلها، وقفت الشاعرة اللبنانية أمام كاميرا بغدادي للبحث عن صورة وطن لا تريد أن تفقده. في «همسات»، تؤدي دور جسر العبور: تزور شتورة وصور وبعلبك، تلتقي الفلاحين هناك، ثمّ تعود إلى بيروت للقاء من يتعايشون مع الأزمة: صناعيين، محامين، بائع الصحف على مدخل شارع الحمراء... شخصيّات أخرى تمرّ أمامنا: عبد الحليم كركلّا يمرِّن فرقته، فؤاد السنيورة موظفاً شاباً في «مصرف لبنان»... هناك أيضاً زياد الرحباني يحدثنا عن حالة الضياع، و«المستقبل يلّي مش شايفو أصلاً».
قد يكون ذلك الخوف على المستقبل محرّك الشريط الأساسي. الخيبة حاضرة في الفيلم الذي يطغى عليه في النهاية نوع من الإصرار على الأمل، وقد يعدّه بعضهم نفحة رومانسية غريبة على سينما بغدادي. لكن المخرج الراحل يصوّر هنا لحظة سياسية حرجة من زاوية مغايرة. لقد أراد بغدادي «المتعّجلّ»، كما يصفه برهان علويّة، البحث عن منافذ للنجاة من الهاوية. ندرك اليوم، بعد أكثر من ثلاثة عقود على الفيلم، أنّ الهاوية ابتعلت الأحلام والذكريات، تماماً كما ابتلع الثقب الأسود جسد بغدادي قبل 18 عاماً في منور تلك العمارة في التباريس. «نادي لكلّ الناس» يعيد تقديم أرشيف بغدادي بوصفه وثيقة سينمائية وتاريخية وجمالية، في زمن طمس الذاكرة والتجهيل بكل أشكاله. انطلق المشروع بالتعاون مع ثريا الخوري، أرملة السينمائي الراحل. ويخبرنا نجا الأشقر أنّه جرى «ترميم معظم الأفلام وتنظيفها، ونقلها من أشرطة 16 و35 ملم إلى طبعة «بيتا ديجيتال»». من الأفلام المرممة «بيروت يا بيروت» (1975)، و«حروب صغيرة» (1982) و«خارج الحياة» (1991) و«لبنان، أرض العسل والبخور» (1988)، إضافةً إلى أعمال وثائقية طويلة، منها «همسات» (1980)، وكلنا للوطن (1974). سيُنجَز المشروع بالكامل في الخريف، على أن توضع الأعمال على أسطوانات «دي في دي»، تتضمن حوارات مع شخصيات عاصرت بغدادي.
بعد الافتتاح مع «همسات»، يستمر «مهرجان أفلام الطلاب التاسع» مع أفلام قصيرة لطلاب من لبنان وسوريا والمغرب والعراق ومصر وفلسطين، ستقوّمها لجنة حكم بينها برهان علوية، ونبيهة لطفي، ونبيل المالح. تسيطر على أعمال الطلاب نبرة الحلم، والعلاقات المأزومة بين الأجيال والحرب الأهليّة. فيلم الختام وثائقي يحمل توقيع مراسل «بي بي سي» في مصر خالد عز العرب. في «يوميات الثورة» نظرة مقرّبة على الاستعدادات لإطلاق ثورة «25 يناير»، واللحظات المفصليّة التي شهدها ميدان التحرير.

«مهرجان أفلام الطلاب التاسع»: الافتتاح 7:30 من مساء غد مع «همسات» ـــــ حتى 4 حزيران (يونيو) المقبل ـــــ «مسرح بيروت» (عين المريسة). للاستعلام: 03/888763