باريس | منذ انطلاق خدمته الإخبارية على مدار الساعة منتصف تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، يطمح القسم العربي من «فرانس 24» إلى تفادي الوقوع في فخّ الخطاب الأحادي والمؤدلج لـ«الإعلام الأجنبي الموجّه إلى العالم العربي». يعزو رئيس مجموعة «فرانس 24» ألان دو بوزياك ذلك إلى «هامش الحرية والاستقلالية للقناة عن الموقف الرسمي الفرنسي». ويضيف إنّه «بخلاف «الحرة» أو «روسيا اليوم»، ليست «فرانس 24» صوت فرنسا الرسمي، بل تعكس النظرة الفرنسية إلى العالم. وهي نظرة عمادها الدفاع عن التعددية والحريات وحقوق الإنسان. (...) بعد ثلاثة أشهر على إطلاق «فرانس 24 ـــــ عربي» خدمتها الإخبارية على مدار الساعة، استطاعت جذب 4,5 ملايين مشاهد، معظمهم في المغرب العربي فقط». بالفعل، كان الربيع العربي نقطة تحوّل في مسار «فرانس 24 ـــــ عربي» التي بدأ بثها التجريبي قبل أربع سنوات وسط لا مبالاة المشاهد العربي. وعندما تسلّمت اللبنانية ناهدة نكد إدارتها عام 2009، وصدر قرار تطوير خدمات البث إلى 24 ساعة يومياً في الخريف الماضي، لم يراهن أحد على نجاح التجربة كما يعترف دو بوزياك: «الطاقم السابق للقناة لم ينجح في تمديد ساعات البث التجريبي من 10 ساعات إلى 15 ساعة يومياً. من هنا جاءت فكرة الاستعانة بإعلامية عربية مثل ناهدة نكد، لما تتسم به من مهنية وتجربة ومعرفة بالعالم العربي».
لمواجهة هذا التحدي، وُسِّع طاقم القناة ليضم صحافيين من 14 جنسية عربية، وأُطلقت شراكة مع إذاعتين عريقتين تنتميان إلى «الإعلام الخارجي الفرنسي»، هما «مونتي كارلو» و«إذاعة فرنسا الدولية». أما عن الخط التحريري للقناة، فتقول ناهدة نكد: «نحرص على أن يعكس مضمون القناة القيم الفرنسية في الدفاع عن الحرية والتعددية والعلمانية وحقوق الإنسان. وهذا ما جعل قناتنا مرآة لتطلعات شباب الثورة في البلدان العربية. فمع تفجر الربيع العربي، استقطبت القناة الجمهور العربي، من تونس إلى البحرين».
لكن السياسة الإعلاميّة لمحطّة تتوجّه إلى ملايين العرب، إنما تحددها أوّلاً وأساساً المصالح الاستراتيجيّة الفرنسيّة في هذه البقعة المتفجرة من العالم. فما هامش الحريّة المتروك للتحرير؟ تردّ نكد: «معالجتنا الإعلامية تندرج ضمن تقليد فرنسي يفصل بين الخبر والرأي، ويتوخى تعدُّد وجهات النظر عبر إفساح المجال لكل الآراء على نحو متوازن. وهذه نقطة تمايز أساسية بيننا وبين «الجزيرة» مثلاً، التي تملك مشروعاً دينياً وسياسياً واضحاً، كما أنّ لنا كامل الحرية في تناول أي خبر أو موضوع، بعيداً عن أي تدخل رسمي فرنسي. وهو أمر غير متاح لبعض القنوات مثل «العربية»، التي لا يمكن أن تحيد عن الموقف الرسمي السعودي».
نلاحظ أن مديرة «فرانس 24 ـــــ عربي» تُقارن قناتها بـ «الجزيرة» أو «العربية»، لا بمحطّات مثل «الحرة» أو «بي. بي. سي ـــــ عربي»، ذلك أن هاجس المحطة الفرنسيّة أن تكسب شرعيتها لدى الرأي العام العربي، ليس كإعلام أجنبي ناطق بالعربية، بل كمحطّة عربيّة. هذا الطموح يحتاج طبعاً إلى كثير من الوقت، لكننا نلاحظ مثلاً أن «فرانس 24» باتت توصف مثلاً ـــــ في الشارع المغاربي ـــــ بـ «شاشة الثورات العربية».
قد يكون الرواج الذي لقيته القناة خلال الثورات التونسية والمصرية والليبية، طبيعياً بالنظر إلى الصلات التاريخية والثقافية الوثيقة بين فرنسا ودول شمال أفريقيا، لكن «فرانس 24 ـــــ عربي» تريد أن تمضي أبعد من ذلك. حين انفجرت ثورة البحرين، كانت الوحيدة التي غطت الأحداث بشفافية، فيما سقطت الفضائيات العربية أو الأجنبية، في الفخ القاتل الذي نصبه النظام البحريني للرأي العام العربي: أي مشهد الانقسام المذهبي المفتعل لتحوير المطالب الشعبيّة الشرعيّة. هكذا تعطّل ميزان «الرأي والرأي الآخر»، وتراجع كثيرون خوفاً من تشجيع «الفتنة» الطائفية تارة، أو الترويج لـ «المدّ الفارسي» حيناً آخر.
من جهتها، وضعت الثورة الليبية «فرانس 24 ـــــ عربي» أمام تحدّ مختلف. التدخل العسكري الأطلسي جعلها تواجه صعوبات جديدة، لكونها تابعة للإعلام الخارجي لدولة تتزعّم التحالف العسكري ضد النظام الليبي. فهل تتحوّل إلى بوق إعلامي للموقف الرسمي الفرنسي؟ قد لا تكون المحطّة نجت من الفخّ كليّاً في رأي منتقديها، لكنّها بذلت جهداً مقبولاً لإفساح المجال أمام مختلف الآراء، حتى أكثرها انتقاداً للموقف الرسمي الفرنسي. ثم جاءت الانتفاضة في سوريا لتضعها أمام امتحان إضافيّ، مشرقي هذه المرّة، من المبكر ربّما أن نتبيّن نتيجته... نلاحظ فقط أنّ صحافيّي «فرانس 24» يستعملون مصطلح «الثورة السورية»، وأن نسبة مشاهدتها قفزت في الأسابيع الأخيرة لتتجاوز القناة الأم الناطقة بالفرنسية!



ستة ملايين مشاهد

خلال لقائه بـ «الأخبار»، حرص ألان دو بوزياك على إبداء اعتزازه بنجاحات القسم العربي: «بعدما أطلقت «فرانس 24 ــــ عربي» خدمتها الإخبارية على مدار الساعة، فاق عدد مشاهديها ستة ملايين شخص وفق إحصائيات IPSOS. مما يعني أنّها تجاوزت «العربية» وأصبحت تحتل المرتبة الثانية وتقارب نسبة مشاهدة «الجزيرة»». وعندما سألناه عن انتقادات تعرّضت لها الإدارة من تمييز في الرواتب بين العرب والأجانب إلى المحسوبيات في التوظيف («الأخبار»، 9/ 4/ 2011)، ردّ: «الأمر «أزمة نمو» تمر بها القناة، لكنني آسف لما استبطنه بعض الانتقادات من لعب على الحساسيات. ليس مقبولاً انتقاد الناس على أساس جنسياتهم أو انتماءاتهم». ويلفت إلى أنّ القسم العربي يستقطب 64 في المئة من جمهور «فرانس 24»، مقابل 29 في المئة فقط قبل وصول المديرة الحاليّة ناهدة نكد.