في روايتها «حيوات أخرى» (دار الراوي)، وهي الثالثة لها بعد «باء مثل بيت مثل بيروت» (1997) و«توت بري» (2001)، لا تتأخر إيمان حميدان في إظهار بطلتها ميريام عالقة في مكان ما، أو ربما في أكثر من مكان. صفة «عالقة» أو حالة «البين بين»، حسب وصف البطلة لنفسها، تتحول إلى نمط حياة. ويصطبغ تذكُّر هذه الحياة (واستئنافها أيضاً) بهذه الصفة التي تفرض شكلاً حلزونياً لأحداث الرواية سواءً تلك التي انتهت وأصبحت نوعاً من الماضي للبطلة، أو التي لا تزال تعيشها وتنتظر أن تلتحق بالماضي.تعود ميريام دوماً إلى المكان أو الحدث الذي تبدأ منه. طبيبها النفسي يطمئنها بأنّ «الذاكرة الدائرية هي صفة نسائية، وأنّ الرجال يتذكّرون بطريقة مختلفة». هكذا يجد الإجراء السردي تأويلاً فلسفياً وعلمياً. الواقع أنّ هذا الإجراء هو حاضن الرواية برمّتها. إنّه أسلوب ونبرة وحساسية كتابة مفضّلة لدى المؤلفة، الساعية إلى إنجاز رواية تتحدّث عن ندوب الحرب، بدلاً من الحرب، وعن الجانب المظلم والموارب من حياة الشخصيات التي نكتشف أنّها «عالقة» مثل البطلة العائدة إلى بيروت كي تستعيد ملكية بيت العائلة بعد توقّف الحرب الأهلية.
«ليش رجعتِ ع لبنان؟ ليش رجعت؟ شو بدّك بهالبلاد؟»، تقول لها صديقتها أولغا المريضة بالسرطان. تؤجل ميريام الإجابة، مستعيدة التفاصيل التي هجّرتها مع عائلتها. تتذكر حبيبها الأول جورج. جنينها الذي أجهضته، ما سبّب استحالة حملها لاحقاً. مقتل شقيقها بهاء الذي أفقد الأب جزءاً من قواه العقلية. جدتها نهيل التي فضّلت البقاء في الجبل. تعود ميريام لملاقاة كل ذلك، حاملةً معها تفاصيل هجرتها التي قضت أربع سنوات منها في أوستراليا، قبل أن تتزوج بطبيب بريطاني اسمه كريس، وتنتقل للعيش معه في العاصمة الكينية مومباسا. طوال 11 عاماً، يغرق هو في أبحاثه عن الملاريا الأفريقية، وتعيش هي حالة لاانتماء قصوى إلى درجة إبقائها معظم أغراضها في حقائب كثيرة استعداداً للمغادرة.
يحسّ القارئ بأنّ السفر كان نوعاً من الحل، لكنه لم ينجح. الزواج يأتي ضمن السعي نفسه، لكنّ الحياة الزوجية تحبس البطلة داخل ماضيها الذي لا يمضي. العيش على «الحافة» صفة أخرى تُضاف إلى حياتها العالقة. كأنّ العطب داخلها يجد حيواتٍ أخرى لأشخاص معطوبين أو غير قادرين على شفاء عطبها الداخلي. وكما فعلت ليليان في مستهل «باء مثل بيت مثل بيروت»، تواصل حشر حقائب جديدة في منزلها كي تكون جاهزة لرحيل جديد أو حياة أخرى، بينما تواظب رسائل صديقتها أولغا على تحريك ملعقة الماضي في صحن حاضرها.
في مطار دبي، تتعرف إلى نور الفلسطيني ـــــ الأميركي العائد للبحث عن جذوره. عودتهما الموقتة تصنع علاقة موقتة بينهما. علاقة تستعيد فيها البطلة بعضاً من مشاعرها التي ماتت بخسارة حبيبها جورج، أو لم تجد ترجمة لائقة في حياتها مع كريس. بطريقة ما، يحمل لقاؤها مع نور طعم العزاء المتبادل. إنهما متشابهان في حيرة الهوية والانتماء والبحث عن الماضي. في لحظة التحامهما الجسدي، تقول: «نسيت بيتي في كينيا ونسيت ما جئت لأجله في لبنان... فقط أردته تلك اللحظة بقوة... أوصدتُ الباب وتركتُ عالمي كلّه في الخارج (...) أردته أن يدخلني بسرعة. شعرت بأنه يُخرج ألماً عميقاً من أحشائي، ألماً استقر هناك وصار جزءاً من جسدي».
لكنّ ميريام تعرف أنّ نور سيُضاف إلى قائمة خساراتها: «الناس الذين نحبهم يبقون في داخلنا إلى الوقت الذي يصبح فيه بمقدورنا تحمّل خسارتهم. لكنّه لن يبقى معي حتى ذلك الوقت». تستكمل البطلة خساراتها برحيل نور، وموت الجدة، وخضوع أولغا لجلسات العلاج الكيماوي. أولغا التي تعرفت معها على رغباتها الجسدية المبكّرة، هي صلة الوصل الأقوى بين حياتها السابقة وحيواتها التالية: «أرى أولغا تذبل ولا قدرة لي على قول أي شيء. لست مستعدة لخسارة أخرى. هذا كثير عليّ في سنة واحدة».
تواصل بطلتنا تقليب حياتها بأكثر من طريقة، لكنّ الطرق كلّها تقود إلى النتيجة ذاتها. إنّها عالقة في بلد عالقٍ بدوره بين ماضٍ لا يمضي، وحاضر يراوح مكانه ومستقبل لا يأتي. كأنّ دمار الفرد يتغذّى من دمار البلد. الشخصية المعطوبة هي حصيلة «مرجعية مدمّرة» بحسب الناقدة يمنى العيد في تحليلها لروايات الحرب اللبنانية. تعرف البطلة أنّ الحرب توقفت، لكنّ السلم الأهلي لا يبدو كافياً لطيّ صفحة الماضي ومحو ندوبه.
تخلط إيمان حميدان حياة بطلتها مع حياة المدينة. نشير مثلاً إلى وقوع الرواية في خلط زمني غير مبرر، إذْ إنّ إقفال مقهى «المودكا» سيحدث بعد سنوات عدة من عودة البطلة سنة 1995، وكذلك انتعاش الحياة الليلية في منطقة مونو والوسط التجاري. باستثناء ذلك، تنجح الرواية في جذب القارئ بنبرتها المرنة القادرة على الجمع بين سرد متقن وسلس لـ«حيوات» الشخصيات، والتأريخ الاجتماعي والنفسي لجروحها العصيّة على الاندمال.