...إذاً سحبتْ «وورلد برس فوتو» الهولنديّة معرضاً بأكمله من «أسواق بيروت» لأنها رفضتْ قرارَ الأمن العامّ اللبنانيّ سحب صور مصوّر إسرائيليّ من ذلك المعرض بذريعة رفضها لـ«الرقابة». جاء ذلك بعد حملة ناجحةٍ قام بها مناهضون للتطبيع ووسائل إعلاميّة وطنية («الأخبار 20 ثمّ 23 أيار/ مايو 2011).إنه انتصار جديد لحملة مقاطعة إسرائيل، وبرسالة مؤدّاها: لا يمكن أن تُعتبر إسرائيلُ أمراً طبيعياً في أيّ محفل ثقافيّ في لبنان. لكنّ قلّةً من اللبنانيين تنبّهتْ إلى وجوب إلحاق الخزي والعار بمن يسمّى «منظّمي» المعرض اللبنانيين، أيْ «سوليدير» و«جامعة سيّدة اللويزة»، و«أسواق بيروت». هؤلاء صمتوا صمتَ القبور إزاء قرار «وورلد برس فوتو» سحْبَ صور المعرض بأكمله (لا صورِ الإسرائيليّ وحده)، كأنّهم محضُ مشغّلين محليّين ــــ وهم كذلك فعلاً ولا يستحقون لقب «وكلاء محليين»: لم ينبسوا ببنت شفة، لا حين جاءت الصورُ إلى «أسواق بيروت» ولا حين سُحبتْ. هؤلاء المشغّلون مجرّدُ سوق للعرض... سوى أنّ السوقَ أفضلُ حالاً منهم لأنها تأخذ عادة رغباتِ الجمهور المحلّي في الاعتبار، فيما المشغّلون اللبنانيون هنا لا يراعون إلا مشاعرَ الجمهور الغربيّ المتحضّر الذي يأنف أن تُمسّ إسرائيلُ بأدنى خدش!
ماذا قالت «وورلد برس فوتو» بقرارها سحبَ المهرجان بأكمله كرمى لعينيْ إسرائيل؟ قالت بالحرف الواحد: لبنان هو البلدُ المنبوذ لا إسرائيل، ولبنان لا إسرائيل من يستحقّ العقابَ بالإقصاء من جنّة الصورة الفوتوغرافيّة. «وورلد برس فوتو» قالت للبنان: «طز» على قانون المقاطعة اللبنانيّ لعام 1955، و«طز» على كلّ تاريخ صراعك وشهدائك ومعتقليك ومهجّريك. هذا ليس غريباً عن مؤسّسات الاستعلاء الغربيّة التي تتنكّر لحقوق الشعوب المحليّة، بحجّة «القيم الكونية» والفنّ «الخارق للخصوصيّات». لكنّ المخزي ألا يُصْدر المشغّلون اللبنانيون بياناً يستنكر قرار «وورلد برس فوتو»، فبدت المعركة كأنها بين طرفين: لبنان برافضي التطبيع وبإعلامه الوطنيّ من جهة، والمنظّمة الهولنديّة ومعها إسرائيل و«العالم الحرّ» من جهةٍ ثانية. أما المنظّمون... فعلى الحياد!
نعم، ليست في لبنان مربّعاتٌ أمنيّةٌ مطوّبةٌ بأسماء رموز النظام الطائفيّ فحسب، وإنما ثمّة أيضاً جزرٌ لا تخضع لقانون المقاطعة اللبنانيّ. وعلى كوني ضدّ الرقابة بالمطلق، أسمح لنفسي بأن أستثني إسرائيل، بل أطالب بتوسيع القانون ليطاولَ كلَّ ما يتعلّق بالتعامل مع دولة الاغتصاب الصهيونيّ على المستويات الفنيّة والنشر الإلكترونيّ والجوائز الفنيّة، أكان لهذه جميعِها مردودٌ مادّيٌّ على هذه الدولة، أمْ مردودٌ إشهاريّ معنويّ ترويجيّ.
لبنان ليس فقط ساحة مفتوحة منذ سنوات لجواسيس إسرائيل (والأنظمة العربيّة والغربيّة)، بل أيضاً مرتعٌ للفنّانين الذين زاروا «إسرائيل» في عزّ قمعها للشعب الفلسطينيّ، وبعضُهم (جاد المليح، دي جي تييستو) أدلى بتصريحاتٍ مؤيّدةٍ للعدوّ ولـ«أسراه» (كجلعاد شاليط). في لبنان، فنّانون يحيون حفلات في مهرجاناتٍ بطولها بعدما كانوا في «إسرائيل»، أو يزمعون إحياءها بعيد قدومهم إلى لبنان (هذا ما ستفعله فرقة «موبي» في جبيل هذا الصيف!). كأنّ الفنّ محضُ سياحةٍ بين بلدٍ وبلد، لا «يشوِّهه» موقفٌ أخلاقيٌّ صارمٌ من القتل والذبح والتهجير.
لبنان مرتعٌ للخذلان بذريعة الحريّة والفنّ، وموطئُ قدمٍ للميوعة الوطنيّة والقوميّة بحجّة العالميّة والمشاركة في «الركب الحضاريّ». وعلى كلّ مَنْ يحترم دماءَ الشعبين اللبنانيّ والفلسطينيّ أن يطالب «أسواقَ بيروت» وجامعةَ اللويزة وشركةَ سوليدير بتقديم اعتذار واضح لتقاعسها جميعِها عن منع المشاركة الإسرائيليّة في عاصمة المقاومة والعروبة... ولتقاعسها عن إدانة المنظمة الهولنديّة بسبب استخفافها بها وبمشاعر الشعبين. وهذا لا يعفي السلطات الأمنيّة اللبنانيّة من نقدنا الشديد: أين هي لتضع حداً للعبث بقانون المقاطعة؟ أمْ أنّ القوانين في لبنان لا تُفرض إلا على الضعفاء والفقراء؟

* رئيس تحرير مجلة «الآداب»