الدورة 64 من «مهرجان كان» كانت مميزة بالفعل، صنعت الحدث بجدارة، هذه المرة ليس فقط على صعيد الأفلام المشاركة، بل على الصعيد السياسي أيضاً، ومن خلال النقاشات الصاخبة التي كادت تغطّي على الليالي الملاح على الكروازيت بيخوتها وحسناواتها ونجومها البرّاقة. بدأت الضجة مع الاحتفاء بثورة مصر الذي شهد انتقادات لمشاركة شخصيات محسوبة على نظام مبارك، وتواصلت مع مشاركة جعفر بناهي ومحمد رسولوف بفيلمين جرى تسريبهما إلى المهرجان. ثم جاء الفيلم عن اغتيال ليدي دي («قتل غير مشروع» لكيث ألن)، وفيلم ناني موريتي عن «البابا» الهارب (ميشال بيكولي)، وفيلم كزافييه دورانجيه عن الرئيس ساركوزي الذي غطّت عليه فضيحة منافسه السابق دومينيك ستروس ــ كان في نيويورك... وكانت الذروة الضجة التي أثارها الدنماركي المشاكس لارس فون تراير، وكان من نتائجها سابقة في تاريخ المهرجان، هي إعلان ضيف بهذه الأهميّة (وأي ضيف أساساً) شخصاً غير مرغوب فيه على الكروازيت. بالتأكيد، كان عرض فيلمي محمد رسولوف «إلى اللقاء» (راجع المقال في مكان آخر من الصفحة) وجعفر بناهي «هذا ليس فيلماً»، حدثاً غلب عليه الطابع السياسي، وساهمت الظروف التي يرزح السينمائيان تحتها في إيران في تعاطف الجمهور معهما. على صعيد آخر، بدا الأمر مخزياً في ما يتعلق بفون تراير، فكما كتب أحد المعلقين، يحتفي «كان» بمخرجين ممنوعين ليقوم بمنع آخرين! علماً بأنّ فيلمه «اكتئاب» لم يسحب من المسابقة (نالت كيرستن دانست جائزة أفضل ممثلة عن دورها في الشريط) بعد التعليقات التي أدلى بها خلال المؤتمر الخاص بفيلمه («الأخبار»، 20 أيار/ مايو 2011). قال كلاماً عشوائيّاً، بقصد الاستفزاز، عن هتلر واليهود، فأيقظ شبح اللاساميّة التي لم تشف منها أوروبا. أما «طرده» الرمزي من المهرجان، رغم اعتذاره، فأوقظ هواجس أخرى: هل يبدأ «كان» بمحاسبة السينمائيين على مواقفهم، فيستبعد مثلاً إمير كوستوريتسا، رئيس لجنة تحكيم «نظرة ما» لهذه الدورة، لأنّه أيّد مجرم الحرب ميلوزوفيتش في ما مضى؟
كوستوريتسا وأعضاء لجنته أعلنوا مساء السبت جوائز «نظرة ما». الجائزة الكبرى ذهبت مناصفةً إلى الكوري كيم كي ــــ دوك على شريطه التأمّلي «أريرانغ»، والألماني آندرياس دريسين صاحب Stopped on Track. محمد رسولوف نال جائزة أفضل إخراج عن «إلى اللقاء»، فيما حصل الروسي أندريه زفاغينتسيف على جائزة لجنة التحكيم الخاصة عن شريطه «إلينا».
من جهته، منح الاتحاد الدولي للنقاد السينمائيين (FIPRESCI) جائزته الأولى لشريط الفنلندي آكي كوريسماكي Le Havre. على صعيد الأفلام المشاركة ضمن المسابقة الرسمية، كان المميز في هذه الدورة التخبطات النقدية التي ملأت الأجواء، ما أشار الى سخونة المنافسة. طبعاً، يبقى شريط تيرنس مالك «شجرة الحياة» الذي خطف السعفة الذهبية، من الأعمال الكبرى التي ستطبع ذاكرة المهرجان. العمل يحمل بعداً تأملياً وميتافيزيقياً، عبر رحلة إلى الجذور. لدى عرضه، أثار الفيلم عرض التصفيق وصراخ الاستهجان في الوقت عينه. وقد يكون صدم بعض من انتظره طويلاً. لكن الرأي الغالب لدى النقاد، هو اعتباره من روائع الفنّ السابع، وإن كانت متابعته تحتاج الى شيء من الصبر والنفس التأمّلي، كما هي أفلام مالك القليلة (خمسة) التي لا تخشى البساطة والتكرار. شريط الفرنسي ميشال هازانافيسيوس «الفنان» جاء تحيّة إلى الفنّ السابع. تدور الأحداث في هوليوود أواخر العشرينيات وأوائل الثلاثينيات. أثار العمل الإعجاب، والتقطته هوليوود بسرعة لتوزّعه في الولايات المتحدة، وخصوصاً أنّ الفرنسي جان دوجاردان نال جائزة أفضل ممثل عن دوره في العمل. بينما استقبل شريط بيدرو ألمودوفار «الجلد الذي أسكنه» بحماسة أقل مما كان متوقّعاً...
يبقى أنّ السينما اليابانيّة خرجت خالية الوفاض من المهرجان بعدما تمثّلت في «هارا كيري» للمخرج العنيف تاكاشي ميكي، و«هانيزو» لمواطنته ناومي كاواسي. فيما انبهرت الكروازيت بفيلم Drive لنيكولاس ريفن الذي نال أمس جائزة أفضل إخراج.