فؤاد رفقهجَمَعَتْنا، أنا وفؤاد رفقه، صحبة الودّ ولم يجمعنا الشعر. منذ اللحظة الأولى ساوره الحذر حيال تجربتي في «لن» وظلّ طويلاً، ربّما حتّى النهاية، لا يبارح فتوره تجاه جموحي. من الأدلّة على ذلك أنّنا حين نلتقي ـــــ وآخر مرّة كانت في مناسبة إعادة إصدار دار نلسن للعدد الأوّل من مجلة «شعر» ـــــ يبادرني بالمزاح فأضحك، ويعاجلني بمزحةٍ أخرى فلا يعود في الهواء غير خفّة دمه.
شعره ناعم حزين كابتسامته، حييّ ناحل مثل ظلّ الورد. بين آباء مجلة «شعر» كان الأكثر وفاءً ودفئاً، والأكثر حبّاً ليوسف الخال وملازمةً له. كان بينهما تواطؤ الجذور السوريّة ومَوْنَة العنيف على اللطيف.
«لو يرى الموت/ انّه الموت/ لو يرى!»
آخر تأوّهاته في ديوانه الجديد «محدلة الموت وهمومٌ لا تنتهي». لم تتجاوز عواصفه خَفَر العتاب. لجأ عبر ترجماته من شعراء الألمان إلى جنون لديهم كان يجتذبه ويخيفه.
كانت صحبة فؤاد رفقه، كشعره، صحبة المساء. ورغم تَبَيْرُتِه ورغم تَجَرْمُنه، ظلَّ ممسوحاً بزيتِ القرية المبارك.
وعاش كالهمسة.


العرب والغربة

تبعث مطالعةُ كتاب حليم بركات «غربة الكاتب العربي» (دار الساقي) على تأمّلاتٍ حول معاني الغربة قديماً وحديثاً. بينها: هل ثمّة غربة بعد في عالم اليوم؟ سؤال آخر: إلى أيّ حدّ الكتّاب العرب النافون أنفسهم إلى الغرب هم غرباء؟
الكاتب العربي «الغريب» في أميركا وأوروبا صورة رومانسيّة مرتبطة بجبران أكثر ممّا هي مرتبطة بالشدياق وسواه من الصحافيّين والأدباء الذين هربوا في القرنين التاسع عشر والعشرين من الاضطهاد العثماني أو من المجاعات أو انعتاقاً من مجتمعاتهم الدينيّة وأنظمتها البوليسيّة. لا شكّ في إفادة جبران من تغرّبه: لقد اكتسب الرواج بالإنكليزيّة، فضلاً عن الاحتكاك المباشر بأجواء الحداثة الأدبيّة والتشكيليّة وأنماط الحياة الأميركيّة وما نشأ له جرّاء ذلك من تجانسٍ أو تنافر بين الجذور والرواسب الشرقيّة وهبوب الطلائع الغربيّة وما في ذلك من تلاقُح. غالباً ما كانت كتابات أولئك المغتربين تشيع في أنوفنا روائح الجنّة فنغبطهم على حظّهم.
يتكلّم بركات ـــــ وهو النازح الى أميركا من أدب القصّة إلى علم النفس الاجتماعي ـــــ على فوائد الابتعاد عن الجذور لتنقية الرؤية إلى الوطن. وهذا صحيح، وينطبق على مختلف أنواع العلاقة بين الكاتب والكائنات، بل بين المرء عموماً والعالم. ولعلّ الميزة الكبرى والأقلّ كلفة والأقصر مسافة هي أن يتمكّن الكاتب من تحقيق ذلك وهو في مكانه، في عقر داره، في وحله ودمه، لأن الغربة الجغرافيّة قد تحوّلت ـــــ وهي على الدوام عرضة لأن تتحوّل ـــــ جائزة سياحيّة أو أرستقراطيّة غير متاحة للجميع، وربّما حَصَّلَتْ لصاحبها ردّ فعل عكسيّاً فأرته الفردوس في بلده البعيد على اعتبار أن الغائب أجمل من الحاضر والمسافر زادُهُ الخيال.
لعلّ للاغتراب مبرراً أخلاقيّاً واحداً، إذا وضعنا جانباً الهروب من القتل والجوع، هو البحث عن الحريّة. والبحث عن الحريّة لاستعمالها حيث كانت ناقصة. أي في التعبير. في التملّص من الخوف وقول الممنوع وتمكين الموهبة أو الخفايا أو العبقريّة أو الجرح من الظهور.
إلى أيّ حدّ أفادنا الاغتراب على هذا الصعيد؟ هل إدوار سعيد وهشام شرابي والطيّب صالح وأدونيس وعبد الرحمن منيف ومروان قصّاب باشي، وقبلهم جبران ونعيمه وأبو ماضي ورشيد سليم الخوري وشفيق معلوف، وغيرهم وغيرهم، كانوا أو صاروا في مغترباتهم أجرأ معالجةً وأشجع تعبيراً وأعمق غوصاً وأشدّ إخلاصاً وأكثر إبداعاً ممّا كانوه أو عادوا إليه في مجتمعاتهم الأصليّة!
بل نسأل أكثر: هل كتابة مَن اختار بينهم التعبير بالإنكليزيّة أو الفرنسيّة مكّنته من قول ما لم يستطع قوله بالعربيّة؟ وأين ذلك؟ كلّ جبران الإنكليزي نُقل إلى العربيّة ولم يفاجئ. مثله نعيمه والريحاني. إذا استثنينا العلاقات الشخصيّة والتأثيرات الأخرى الممكنة الحصول عبر الانفعال الثقافي عن بُعد بواسطة الكتاب والموسيقى والفيلم واكتساب اللغات من مدارسنا المحليّة دون الحاجة إلى انتقال جغرافي، لوجدنا أن غربة الكاتب العربي كانت على العموم تَرَفاً وتنَعُّماً بالعيش في «العالم الأوّل».
أكبر الظنّ أن الكاتب المقيم هو الغريب، مجرَّداً من تلك الهالة الارتحاليّة الهائمة، مساوياً للإنسان المقيم في جوهر البؤس، زائداً عليه قسوةَ الغربة في الإقامة. نستثني المنفيين قسراً، ونجيز لأنفسنا، مع شيءٍ من العسف لا بدّ منه، القول عن كتّابنا الآخرين في المهاجر: لا غربةَ عند هؤلاء الأعزّاء بل الأرجح إقامة في زمنين: زمن الشراع المفتوح على الآفاق وزمن الحلم بفردوسٍ مفقود.
وإذا جلسنا في ظلال العولمة مَضَينا في المبالغة إلى القول إن الغربة باتت هي أيضاً معولمة، من بلدٍ إلى بلد وفي قلب الشارع الواحد والعائلة الواحدة والروح الواحدة. مَن يستطيع بعد اليوم أن يدّعي غربةً كما كانت الغربة قبل مئة عام ومَن يستطيع أن يدّعي أُلفةً كما كانت الألفة؟. لم يعد هناك تلك الغربة الضبابيّة المنوّرة بهالةِ الاقتلاع الوطني أو آلام التيه. لقد عادت الغربة لتستعيد حجمها الأصلي: حجم الانوجاد في مكان موحش وزمانٍ عدوّ، حيثما كان.
... أمّا الحريّة، الحريّة التي نهرب إليها بالسفر إلى «بلاد الرقيّ»، فهي لا تُنال بالمراسلة ولا تُعانَق على الضفاف، بل تُغْتَصَب اغتصاباً، في نخاع عظمها، بين قضبان سجنها، في اللغة الأمّ، حيث الموت والحياة.


ألاعيب

وقع قلمي أخيراً في سوء تعبير، على وزن سوء فهم أو سوء تفاهم. ساويت في إحدى المقالات بين المثْليّ والساديّ. لقد أردتُ الجمع بين طرفين من أطراف الخروج على النمط من حيث كون كلّ منهما طرفاً أقصى، وغاب عنّي أن العبارة قد تدمج بينهما في نوع السلوك، وهذا غير صحيح طبعاً، فكلّ منهما مختلفٌ جذريّاً عن الآخر. في الحقيقة كانت الصورة في ذهني أنّ كلاً من النموذجين يقف على طرف نقيضٍ من الآخر، وقد وضعتُهما في جملةٍ واحدة اختزالاً.
الساديّة (وهي شذوذ مررتُ به كتابيّاً في مرحلتَيِ المراهقة والشباب، ويعكسه الكثير من كتاباتي الأولى، وقد تكون له بقايا إلى الآن) تُعرَّف بأنّها انحرافُ مَن يستمدّ متعته من تعذيب الآخر. سأقترح تعريفاً آخر: مَن يستثيره ضعف الآخر فيتحامل عليه بأملٍ ضمنيّ أن يؤدي تعنيفه لضحيّته إلى تحريرها من الاستكانة وإلى المواجهة وربّما إلى التمرّد على جلّادها وقمعه. أنا أقرب إلى المعادلة السادو ـــــ مازوشيّة منّي إلى نصف المعادلة. خلاصةُ القول ان معايشة المثليّ رحيمة، بعكس معايشة الساديّ، وإن الأوّل درجة عالية من الرهافة، بينما الثاني عودة إلى البربريّة. والمثليّون، لناحية اغتراب بعضهم عن نظام التناسل ورفض الاختلاط بين الجنسين تفادياً لما يصاحبه من عنفٍ وقسوة، هم أقرب إلى الرقّة من سائر البشر، وإسهاماتهم الفنيّة والأدبيّة والفكريّة في الحضارات والمدنيّات أكثر من أن تُحصى. وفي الفنّان والشاعر يختلط الجنسان أحياناً حدّ الالتباس.
نستطيع أن نُعمّم فنقول، دون مبالغة، إن كلّ ما يحفر في عمق الوجدان نفاذاً إلى ما وراء القشرة والجدار يحمل في طيّاته إمكاناً من إمكانات الكشف وتوسيع حدود العقل وإغناء رأسمال الشعور، على الأخصّ ذلك الحَفْر الذي يزيد مقدار وعي الإنسان لمأساته أو يُكبّر مساحة مَلاعبه ضمن أقفاصها. تسمية «المنحرف» هي في ذاتها علامةُ تقدير في الوقت الذي يُراد لها أن تكون علامة تعيير: المنحرف يبتعد عن القطيع، في هذا كلّ وحشة عزلته وكلُّ دراماتيكيّة شجاعته.
لا يتعارض هذا الكلام مع موقفي الشخصي، البسيط، الساذج: لا جاذب عندي غير جاذب الجنس الآخر.
...وجميعها ألاعيب، المألوفة والمنحرفة، جميعها ألاعيب، ولكلّ من هؤلاء الأولاد لعبته. حَسْبُها أنْ تَصْرفه عن تصديق الحياة.



عابرات

قبل أن تصعدي
يبدأ نورُكِ في القلب.
قبل أن تنزلي
يبدأ قَرْعُ طبول العتمة.

■ ■ ■

امرأةٌ تَستخفُّ بالغزَل عصفورٌ يستخفّ بالهواء.

■ ■ ■

... وماذا تفعل الأحلامُ إذا عجز صاحبها عن أن ينام؟

■ ■ ■

قفْ عند عتبة خيالكَ ولا تطرق الباب. دع لما وراء الباب فرصة انتظارك أطول وقت ممكن.

■ ■ ■

ثمّة حالة يتّخذ فيها الشروق معنى الكسوف: العري... هنا حيث تحتشد غيوم الرغبة عاصبةً جبين الحبّ.

■ ■ ■

المخدوعة بأنّكِ تنالين أكثر ممّا تستحقّين
المغرور بأنّكِ جائزته التي لا يستحقّها...

■ ■ ■

أتذكّرُ أصحابي واحداً واحداً. أَفْضَلُهم أولئك الذين أحاطوا نساءهم بالوهج الذي جعل سائر الرجال يعشقونهنّ.

■ ■ ■

يحتاجكِ ليهرب وتحتاجينه لتواجهي.

■ ■ ■

لستَ أنتَ مَن يصغي بل خوفكَ من الصمت.