دمشق | زيارة خاطفة، و«سريّة (؟)» إلى دمشق، لطباعة ديوانها الجديد «بلا طيره ألمي» (دار نينوى). رغبة متوحشة في تنفس هواء الشام. تسكّع طويل في أزقّة باب توما ومقاهيها. إنها الشاعرة السعودية هدى الدغفق. هكذا تضع حمولتها من الأسى على الطاولة، وتروي معاناتها في مجتمع ذكوري صارم. تفرد مسوّدة كتابها «أشقُّ البرقع... أرى» الذي سيصدر قريباً عن «دار الريس» في بيروت، فتنقل إلينا كالعدوى كل هذا الألم، وتلك الخسارة.
نقرأ في مقدمة الديوان: «أستيقظ كل يوم على شمس مطفأة، وأبواب مغلقة، وشوارع لا أعرفها. أزهاري ذابلة، وبرقعي يكبّل حركة جسدي، أما صوتي فيتلاشى في حضرة الصمت. ليس لديّ ما أفعله سوى أن أكتب». وتضيف: «هذه منحة إلهيّة حقاً، أن أكون كاتبة، وأن يسيل حبري على الورق. أن أكتب ذاتي، صراخي، وجعي، أشواقي، أنوثتي المسلوبة».
ولا تكتفي صاحبة «الظل إلى أعلى» (1993) في إماطة اللثام عن مخاضات الكتابة، بل تتوغل في هتك أسرار ما يجري داخل أسوار تلك: «الأرض المقدّسة الملعونة». تهتف: «انظروا إلى سنام المحرمات فوق ظهري، أكاد أترنّح تحت ثقلها». كما تستعيد تفاصيل سيرة مثقلة بالممنوعات والحجب والإقصاء.
ظهور اسمها للمرة الأولى في صحيفة محلية، أثار زوبعة عائلية، لولا حكمة الأب. هكذا كانت تتحاشى أن تلتقي عائلتها كل يوم خميس، موعد صدور زاويتها الصحافية، كي لا تقع تحت وطأة لوم أشقائها. بدأت هدى الدغفق تسجيل يومياتها في دفتر سرِّي، منذ أن كانت تلميذة، واستمرت في كتابة مذكراتها بمكاشفة أكبر، تتجاوز مرحلة البوح إلى الاعترافات. لكن اكتشاف زوجها (المثقّف) لما كانت تكتبه، وضعها في خانة الاتهام، لتنتهي العلاقة المضطربة بالطلاق: «نجحتُ بأن أحرر جسدي من الكدمات»، وتستدرك: «ليس بالضرورة أن تكون الكدمات جسدية على الدوام».
تصمت طويلاً وهي تتأمل فتاةً تقتحم فضاء المقهى بمفردها، وتعلّق بأسى: «هنا لن يطاردني المطاوعة، ولن يخرج أحدهم ليباغتني بالجرم المشهود، وأنا أجلس في مقهى مختلط». وتتابع: «تركت كل آثام تلك التجربة المرّة خلف ظهري. كافحت من أجل استعادة مكتبتي فقط، لكنَّني لم أفلح. مكتبتي التي تحمل آثار أصابعي، وذكرياتي وتشكّل وعيي. حين أستعيد يوميات أناييس نن، أو غرفة فيرجينيا وولف، أو حريم فاطمة المرنيسي، أو كتباً تحمل تواقيع وإهداءات أصدقاء، أحسّ بالتلاشي والغيبوبة والرغبة في الموت».
في فصل بعنوان «الخروج من الخيمة» تروي مآسي نساء سعوديات وجدن أنفسهن تحت وطأة تقاليد متوارثة، وقوانين صارمة في الأحوال الشخصية والسفر والتنقّل داخل المملكة: «لطالما حلمت أن أتمّم دراستي العليا خارج البلاد. هذا الحلم الذي جوبه بالرفض القاطع من عائلتي. كيف تسافرين من دون محرم؟ عبارة تطاردني كاللعنة، أجهضت أحلامي في الطيران بعيداً، عن قفص موتي البطيء». سوف تتجرأ صاحبة «ريشة لا تطير» (2008) على قرع جدران الخزّان، وتذهب سرّاً إلى البحرين في إجازات متباعدة، كي تتعلم قيادة السيارة، وتخضع لدورة مكثفة، انتهت بالحصول على شهادة قيادة، كانت بمثابة حلم مستحيل.
هذه التمارين على التمرّد أخذتها أخيراً إلى مغامرة أكبر. في مهرجان «الجنادرية» الأخير، حين دُعيتْ إلى المشاركة في أمسية شعرية في أحد أندية جدة. حالما جاء دورها، صعدت إلى منبر الشعراء، متجاوزة الحاجز الزجاجي الذي يفصل النساء عن الرجال، وأصرّت رغم ممانعة مدير النادي، على أن تلقي قصائدها من المنبر .
«قرَّرتُ في لحظة شجاعة، وربما لحظة طيش، أن أحطّم ذلك الحاجز الزجاجي الذي يفصل النساء عن الرجال في القاعة، وأقتحم المنبر». هكذا تروي هدى الدغفق لحظة اعتلائها المنبر في قاعة مخصصة للرجال. «هذه الحادثة، ألهبت القاعة أولاً، في سجال صاخب، بين محتجّين ومتضامنين، قبل أن تصل «الفضيحة» إلى الصحافة، وبعض المواقع الإلكترونية التي هاجمتني بقسوة، كأنني ارتكبت معصية أو خطيئة لا تغتفر. فقد اقتحمت محظوراً، لم تجرؤ شاعرة على تجاوزه». مرّة أخرى، كانت هدى تشقُّ البرقع». يومها أصرت الشاعرة على إلقاء قصائدها، جنباً إلى جنب مع زملائها الرجال، في نادي جدة الأدبي.
العاصفة التي أثارتها الشاعرة السعودية لا تتعلق بتجاوزها الممنوع وحسب، بل بنشر صورتها في الصحف أيضاً. ترجونا أن لا ننشر صورتها في الطبعة الإلكترونيّة من «الأخبار» كي لا تتعرّض لمشكلة إضافية. حين نشرت أولى قصائدها المتمرّدة، فوجئت بالداعية السعودي عوض القرني، يتهجّم على ما كتبته، بتهمة الحداثة! لكن هدى ستتابع خطواتها بمشقّة، عبر نصوص أخرى، تنطوي على حسّ أنثوي صاخب، وعزلة قسرية، وجسد مكبّل بعباءة سوداء.
قصائد خاطفة عن الهجران، والوحشة، والرغبات المؤجلة، اخترقت حدود بلادها إلى لغاتٍ أخرى: مثل الإسبانية مع «سهرت إلى قدري»، و«بحيرة وجهي»، والإنكليزية مع «ريشة لا تطير»، والفرنسية «امرأة لم تكن»... تقول في قصيدتها «بنات أفكاري» من مجموعتها الأخيرة «بلا طيره ألمي»: «عاريات يقبلن إلى بنات أفكاري، لا تلبسهنّ عباءة ظنونك، أرجوك». وفي نصٍّ آخر تقول: «أنا زاوية حادة، لا ضلع لي/ أنا ضمير أنثاي».