في أحد أحياء دمشق الفخمة نتبع لافتة كتب عليها «صالة عشتار للفنون التشكيلية». يلفتنا منظر النباتات المزروعة عشوائياً على مدخل أحد الأبنية. يصدح صوت أندريا بوتشيلي من الداخل، فنتبعه، ليوصلنا إلى بهو علّقت على جدرانه عشرات اللوحات. عند ذاك نتأكد من أننا صرنا في ضيافة عصام درويش صاحب الصالة، وأحد أبرز التشكيليين السوريين.
يستقبلنا بابتسامة عريضة، لا تفسدها ملامح الوقار التي صنعها شيب يكلّله بالكامل. يدعونا إلى جولة طويلة في معرضه، قبل أي حديث عن أيام زمان.
في فسحة بيت عربي من بيوت دمشق القديمة، فتح عصام درويش عينيه على الحياة، وعاش طفولة هادئة. أبهره للمرة الأولى شكل الضوء وهو يتسرب من شبابيك بيتهم إلى عتمة الغرف. راقب عن كثب ذرات الغبار وهي تتطاير في الهواء، عندما كانت والدته تنظف الدار. هذا المشهد سيجعله مولعاً بتقنية التنقيط التي عمل عليها لاحقاً لفترة طويلة. وبين البيت الدمشقي وقريته جسرين في غوطة دمشق، بنى عصام علاقة وطيدة مع الطبيعة، فأخصبت المساحات الخضراء مخيلته.
أدمن الجلوس تحت دالية العنب أو شجرة الكباد، ليرسم وجوه أهله الذين لم ينتبهوا في البداية لموهبة ابنهم. لكنّ الحظ وقف إلى جانب الطفل الرسام، إذ إن أستاذ الرسم في الإعدادية التي درس فيها، كان الفنان ناظم الجعفري. فوجئ الأستاذ يوماً برسمة يدّعي ذلك الطفل أنّها له، ولم يصدّق أنّه أنجزها بمفرده من دون مساعدة. وكانت النتيجة أن ألحق به عقوبة قاسية، حتى لا يكذب مرة أخرى! لكنّ هذه العقوبة تركت من دون قصد حافزاً إيجابياً قوياً في نفس الطفل الذي أدرك أنه يمتلك موهبة استثنائية. هكذا التحق بـ«مركز أدهم إسماعيل للفنون التشكيلية»، مستعيناً بما وفّره من مصروف شخصي من دون أن يخبر أهله.
في ساحة التحرير، كان عصام درويش يلهو يومياً مع رفاقه، وشاءت المصادفات أن تتاح له مراقبة طلاب «كلية الفنون الجميلة» في مبناها القديم. «الفن بالنسبة إليّ هو نسمة حرية، وأولى نسائم الحرية كانت تصلني مع مشهد طلاب كلية الفنون الجميلة الذين حرصت على مراقبتهم يومياً وتمنيت طويلاً أن أكبر بسرعة لألتحق بهذه الكلية». في البيت الدمشقي، كانت الحياة صاخبة تضجّ بتفاصيل يومية مميزة... عائلته قوامها ستة أولاد وبنت. وحضور الضيوف كان طقساً يومياً. راح عصام يحلم بأن يغلق على نفسه الباب ويبقى هكذا لساعة واحدة، من دون أن يقتحم عزلته أحد. كان يسعى للهروب إلى عزلة، يكوّن فيها عالمه. ويخبئ داخل كتبه المدرسية روايات من أدب أميركا اللاتينية، والأدب الروسي، ويواظب على قراءة تلك الكتب أكثر مما قرأ مناهجه المدرسية. بعد الشهادة الثانوية، لن يجد المراهق المسكون بهاجس الإبداع صعوبة في تحقيق حلمه. سيجتاز بسهولة امتحان القبول إلى «كلية الفنون الجميلة». ومن بين متخرجي دفعته لاحقاً، نجد النحات السوري المعروف مصطفى علي الذي جمعته به معارض مشتركة عدّة...
في أيام الدراسة، تأثر درويش بفاتح المدرس الذي علّم طلابه أن المستحيل غير موجود. «كنت تلميذه قبل أن يصبح واحداً من أعزّ أصدقائي. علاقتي به أوصلتني إلى مفهوم الحرية لحظة الإبداع، من دون التفكير في رقابة السلطة أو المجتمع أو الدين». لم يستطع أن يتعلم الفن بطريقة منهجية على يدي فاتح المدرس، لكنّه رائد آخر في المحترف السوري سيؤدي هذا الدور: إنّه نذير نبعة الأستاذ الذي أثر في طلابه، وساهم في صقل مواهبهم أثناء التدريبات العملية. في السنة الثانية من دراسته، كلف درويش بوظيفة وهي رسم لوحة لتداخل قماش بالحبر الصيني. وعند إنجازها لم يقتنع أستاذ المادة أولاً بأن الوظيفة مشغولة باليد، ثمّ حوّلها إلى نموذج أطلع عليه الطلاب الذين يعدّون مشاريع تخرجهم.
عندما تخرّج عصام درويش من «الفنون الجميلة»، لم يكن تقليد الغاليريهات رائجاً في سوريا، باستثناء صالات العرض الحكومية. لذا بادر إلى افتتاح «صالة عشتار» ليقدم فيها أعماله، ويستضيف تشكيليين بارزين، كان بينهم على امتداد السنوات مثل: نصير شورى، وفاتح المدرس، وصخر فرزات وآخرون. كانت «عشتار» فسحة لتعميم الفن، مع مراعاة أوضاع المثقفين الذين غالباً ما يحاصرهم سوء الوضع المادي. هكذا قرّر بيع لوحاته إلى أصدقائه المثقّفين بالتقسيط، وبدفعات مريحة. كما استضاف في صالته معارض لفنانين شباب ومتخرجين جدد. في تلك الأثناء، راح يحقق لنفسه حضوراً في معارض فردية في سوريا والوطن العربي، ومثّل بلده في معارض مهمة، كان آخرها بينالي البندقيّة قبل عامين.
لوحاته الواقعية، تصل إلى نهاية واحدة هي الأنثى. عالم من الغواية ومن القسوة والصلابة في آن. لوحات أيقونية تحاول أن تجمع كلّ نساء الأرض في واحدة، وأخرى تحكي عن الخطيئة. «الأنثى رفيقة دربي القديمة، وما شغلني بالفعل هو تجسيد علاقة الأنثى بعالم الرجل، لكن على نحو خفيّ لا يظهر في اللوحات إنما تشعر به في أعماقك عندما تتأملها». عشق التشكيلي السوري باكراً، وكتب لحبيبته الشعر. هنا يهمس لنا أنه لم يوفر لحظة متعة واحدة مع النساء اللواتي عرفهنّ، وكان ذلك مصدر سعادة حقيقية في حياته. حتى الزواج جربه مرتين، بعد قصّتَي حب عاصفتين.
في الوقت الحاضر، يؤرّق الربيع العربي مخيّلة درويش. صار ينصرف عن عمله اليومي لمصلحة اهتمامه بالأخبار الواردة من البلدان العربية، ومن بلده. فهو يرى أن المطالب التي ينادي بها الناس هي مشروعة ومحقة، «والحل الوحيد لهذه الأزمة أن تصغي السلطة جيداً لنبض الشارع ومطالبه من دون تشويهها». برأيه «ستزيد الهوة لو قرر أي حاكم عربي أن يتجاهل مطالب شعبه».
شيء واحد ما زال يتمناه عصام درويش الآن: «أن أعيش وقتاً إضافياً أستطيع أن أحقق فيه كل أحلامي، وأستكمل كل مشاريعي التي أشعر بأنّها تحتاج إلى أكثر من عمر واحد».



5 تواريخ


1952
الولادة في دمشق

1979
تخرّج من «كلية
الفنون الجميلة»

1987
افتتح «صالة عشتار
للفنون التشكيلية»

2009
مثّل سوريا في
«بينالي البندقيّة»

2011
يُعِدّ لمعرض بعنوان «أجساد عارية»
سيقدّمه في بيروت