صباح 15 أيار (مايو)، كأنّ صوتاً كان يناديني: «أيها المُدّثر. أيها المدّثر، قُم أيها المُدّثر». وأصوات تكبيرات تتعالى. ومع تزايد رنين التلفون صحوت. توصيني أمي: «الله يخليك يمّا أوعى تطلع من الدار، قايمة القيامة بالقدس، كيف الوضع عندك ببيرزيت؟ بعدين سامعة صوت صياح. شو في؟». فنفضت الغطاء وهرعت إلى السطح والتلفون في يدي، وأجبتها من هناك: «اتطمني يمّا، الشرطة والجيش حوطت المنطقة كلّها». فأخذ صوتها يرتعش، فقلت: «ما تقلقي... الشرطة والعسكر الفلسطيني هم من حَوطوا المنطقة ومنعوا الشُبان من بلوغ «حاجز عطارة»». عزمت على الرجوع إلى القدس، لألقي التَحية على قبر الشِبل ميلاد عياش، الذي فَجرت رصاصة «دُمْدُم» أحلام شبابه. أثناء طريق العودة من بيرزيت، مررت برام الله. كانت السماء كئيبة، والشُبّان يرجعون إلى بيوتهم بأختام هزيمة جديدة على جباهِهم. وعندما وصلت إلى مجمّع السيّارات العمومية، رأيت ذلك الختيار الجَليليّ المُلقب بـ «أبو عرب» يُغنّي المواويل لبعض المحتشدين. تساءلت بعدها، كيف دخل «مغنّو الثورة» أرضنا المُحتلة؟ هل هبط بالبراشوت أم بالطائرة المروحية؟ لكن أسئلتي الاستنكارية كُلها باءت بالفشل. نحن نعرف أن «أبو عرب» جاء بلا كرامة العودة وبموافقة الاحتلال، عبر ما يسمى مشروع «الملتقى الثقافي التربوي الفلسطيني»، الذي يُنظم هذا العام تحت شعار إنشائي ـــــ بالأحرى كاريكاتوري قياساً بحقيقته: «يميناً يا وطن لن تغادرنا». أبو عرب برفقة حوالى 100 شاب من اللاجئين يمثلون ثلاث فرق من مخيمات عين الحلوة وبرج البراجنة، أقاموا حفلات موسيقية استعراضية، تحت رعاية رئيس السلطة محمود عباس، في «قصر رام الله الثقافي». لكن عندما وصلت مشارف مُخيم قلنديا، اختلف المشهد تماماً كأنّي في بلد آخر، لا شيء مُشتركاً بين مُخيم قلنديا ورام الله سوى أعلام فلسطين وبعض القُمصان التي طُبع عليها «63 عاماً على النكبة». كانت قنابل الغاز كحجارة من سِجّيل حين يَرُدونها بأيديهم العارية للجنود على حاجز قلنديا. كانت عبارة «أهلنا في الجولان قدموا أربعة شهداء حتى الآن» تمدهم بملائكة سوريين من حيث لا تحتسب.
كان الوصول إلى القدس مستحيلاً، بقيت في مخيم قلنديا مع أصدقاء لي وجدتهم هناك. بعدها رجعت إلى بيرزيت، فخوراً بالجولان والقدس ومخيم قلنديا وغزة ومارون الراس... وعندما وصلت رام الله اتخذت طريقاً فرعياً لتجنّب الذين لم يُدرِكوا الفرق بين أسود تزأر ممزقة الحدود بغضبها، وآخرين يدخلون مطأطئين روؤسهم كدجاجات تُساق للذبح تنتظرُ منحها حقَّ النقنقة.